مقدمة: حول معانى تكريم الأمم لمن يستحقون التكريم من أبنائها



مفاجأة سارة:
فوجئت مفاجأة سارة - وأنا أسير نحو التاسعة والثمانين من العمر - بصدور قرار من الدكتور جابر عصفور - وزير الثقافة - بأعتزام الوزارة إقامة حفل تكريم لى - بصفتى شاعراً، وبصفتى واحداً من الرواد فى الحركة الثقافية المصرية، والواقع أنها كانت  مفاجئة سارة لم أنتظرها ولم أتوقعها، ذلك لأننى لم أتعود على التكريم، بل إننى تعودت على التجاهل والنكران، فلم أحصل على أية جائزة على عطائى فى الشعر، سواء من مصر أو من أى بلد عربى، ولم أحصل على أى تكريم لا مادى ولا أدبى، اللهم إلا حفلة التكريم التى أقامها المركز الثقافى الروسى منذ اثنتى عشرة عاماً، بمناسبة بلوغى سن الثمانين، وصدور ديوانى - مختارات من شعر محمود توفيق، وفى هذه الحفلة، قدم لى مدير المركز وساماً روسياً رفيعاً هو وسام الصداقة الروسى احتفاء بالديوان، وبقصيدة "دمع على طلل"، التى عبرت فيها عن مشاعرى عند سقوط الأتحاد السوفييتى سنة 1990.
وتلت ذلك بعشر سنوات، إقامة حفلة تكريم لى من الصديق الدكتور ممدوح حمزة فى جمعية: المجلس الوطنى المصرى، كشاعر، وكمناضل وطنى.
وكان هذا كل ما عرفته من مظاهر التكريم.
على كل حال، أنا شاكر للأخ العزيز الدكتور جابر عصفور على مبادرته الطيبة بإقامة هذا الحفل، الذى أسعد بأن يكون بداية لعهد جديد، يجرى فيه تكريم من يستحقون التكريم من أبناء مصر، ومن الشعراء والكتاب والمفكرين والفنانين منهم على وجه الخصوص.
- إن الأهتمام بتكريم من يستحقون التكريم من أبناء الأمة من شأنه أن يرفع من شأن هذه الأمة، وخاصة فى مجالات الشعر والأدب والفن والفكر، وهو مقياس حاسم لمدى تقدمها ورقيها وحضارتها، كما أنه عامل مؤكد فى تحقيق نهضتها فى المجالات المادية والمعنوية.
ذلك لأن النابهين من أبناء الأمة، وخاصة من الشعراء والكتاب والفنانين هم رصيد من أرصدة ثروتها البشرية، والمادية والمعنوية.
- كما أن هذا التكريم يعود بالخير العظيم - المادى والمعنوى على هذه الأمة، من حيث أنه يساهم مساهمة فعالة فى تهذيب نفوس المواطنين، وفى الأرتفاع بمستويات السلوك - الوطنى والأجتماعى والأخلاقى - لتلك المجتمعات.
- ووسائل وأساليب التكريم متنوعة وعديدة، منها الأحتفالات والتماثيل، والمتاحف، وإطلاق الأسماء التذكارية على المنشأت، وعلى المعاهد والمدارس، والجامعات، بل على المدن، مثل واشنطون، وليننجراد، وستالنجراد، وغيرها من المدن، فى سائر بلاد العالم المتمدن، وقد كان الشعر من أهم وسائل التكريم فى عالمنا العربى حيث تعتبر قصائد المدح والرثاء، أهم وسائط الإشادة بالنابهين، واعلاء ذكرهم بين الناس، ولم تكن لدى العرب تلك الوسائط المتنوعة لتكريم النابهين لديهم، كالتماثيل أو الصور أو غيرها من الوسائط، أما الشعر فإنه متوفر، وهو يمكن أن يقال، ويروى، ويكتب، ويحفظ، فى أى وقت، وفى أى مكان.
- أما فى المجتمعات الأخرى - وخاصة المتقدمة منها، الأوربية والأمريكية منها على وجه الخصوص فقد كانت هناك ومازالت وسائط أخرى للتكريم، كالتماثيل، والصور، والمتاحف، والمزارات، وغيرها، وكان هناك المزيد من الوعى والأدراك لأهمية تقديم مظاهر التكريم لمن يستحقونه من أبناء هذه الأمم، وفى هذه الدول - يكاد لا يوجد مكان، مدينة أو بلدة أو حتى قرية، لا يوجد بها تمثال أو متحف أو نصب تذكارى، أو مزار، لتكريم أحد من أبنائها النابهين، سواء من الشعراء أو الفنانين أو القادة السياسيين أو العسكريين أو غيرهم، للأشادة به واحياء ذكراه.
- وتلعب هذه المنشأت دوراً هاماً فى التعبير عن حضارة تلك الأمم وثقافتها وتقدمها، بل وفى الترفيه عنها واسعادها.
فى مدينة موسكو، وفى منتصفها توجد حديقة غناء، يتوسطها تمثال رائع للشاعر بوشكين - أعظم وأشهر الشعراء الروس، والذى عاش ومات منذ قرنين من الزمان، ويؤم الحديقة كل يوم المئات من أبناء الشعب، وخاصة من الشباب والمحبين والخطاب، ليتنزهوا فيها ويتجولوا حول التمثال أو ليجلسوا إلى جواره، وليضعوا على قاعدته باقات من الزهور تعبيراً عن حبهم لهذا الشاعر العظيم، وتقديراً لإبداعه، ولعطائه فى الأدب الروسى، ومنذ زمن بعيد أصبح هذا السلوك عُرفاً راسخاً لهؤلاء الشباب، وخاصة للمحبين والخطاب، وهو يتيح لهم قضاء أوقات جميلة، ثم بعد ذلك يساعدهم على بناء أسر سعيدة.
- وتوجد فى موسكو وغيرها من المدن الروسية الأخرى، الكثير من هذه النزل والمنشئات.
- وفى مدينة براغ الجميلة، عاصمة تشيكوسلوفاكيا السابقة، ودولة التشيك حالياً - حديقة مماثلة تقع فى حديقة سنترال بارك، يتوسطها تمثال جميل آخر، لشاعر عبقرى اسمه كاريل جوت ماخا، الذى كان قد مات وهو فى ريعان الشباب، وفى أيام الأعياد والعطلات تجد فى هذه الحديقة، وحول هذا التمثال، أفواجاً من الشباب، بل ومن الأطفال، يتجولون ويمرحون، ويضعون على قاعدته باقات من الأزهار، وأحياناً يغنون ويعزفون على آلاتهم الموسيقية، تعبيراً عن حبهم لهذا الشاعر العبقرى الشاب، واحترامهم لذكراه.
ومثل ذلك يحدث فى مختلف البلاد الراقية، النمسا وإيطاليا، ألمانيا وفرنسا، إنجلترا وأمريكا، حيث لا تخلو أى بلد من بلدان تلك الأقطار، من مثل هذه التماثيل والمتاحف، والمزارات، التى أقيمت لتخليد الشعراء والكتاب والفنانين، وغيرهم من الأفذاذ.
- مازلت أذكر أغنية عبد الحليم حافظ  - من كلمات صلاح چاهين، والتى كانت تحلم برؤية "تماثيل رخام على الترعة و أوبرا، فى كل قرية عربية، فما الذى حدث لهذا الحلم؟.
- وأخيراً أقول: إن تكريم الأمة لمن يستحقون التكريم من أبنائها، ليس تكريماً لأشخاصهم فحسب، وإنما هو تكريم للقيم والمبادئ التى يمثلونها ويعبرون عنها - والتى هى القيم والفضائل التى تتبناها الأمة ذاتها، وهكذا يصبح تكريم هؤلاء الأفذاذ، إنما هو فى النهاية، تكريماً للأمة ذاتها.

الفصل الأول: الشعر بصفة عامه، والشعر العربى بصفة خاصة



يقول أبو تمام:

ولولا  خِلال   سَنّها  الشعر   مـــادرى
بناةُ  العُلا.. من أين  تؤَتى  المكارمُ

وأقول أنا: (1)
تبوأتَ  عَرشَ  الشِعـرِ  فارتّد   للصِبا
فأنتَ  أميرُ  الشِعـرِ،  والأُمُّ،  والأبُ
حَـدَائقَ  من  وَرْدِ  الكـلام   غَرَسْتهــا
تفيـضُ  على  الدنيا   عبيراً  وتسكب
خلَعْـتَ  عليـه  النُبْــلَ   لفظــاً  وغايـةً
فصار  له  فى  النُبل  شَرْعٌ  ومَذهَب
إذا  الشِعر لم  يُحىِّ  المروءةَ  والندى
فــلا  خيرَ  فيه  حين  يُروَى  ويُكتب
_____________________________________________
(1)   من قصيدة "الشمس الغاربة" فى رثاء الشاعر عبد الرحمن الشرقاوى (ديوان قصائد فى الحب والحزن).


- الشعر بصفة عامه، والشعر العربى بصفة خاصة، هو من الفنون الجميلة، بل هو أهم وأقوى وأكمل وأجمل الفنون الجميلة، لأنه وهو فن من فنون القول - الكلام - يحتوى على عناصر شتى من عناصر الفنون الأخرى، كالتصوير، والموسيقى، والتمثيل.. إلخ. وهو يحتوى عليها لا بشكلها المادى، ولكن بشكلها التجريدى، والشاعر كثيراً ما يورد فى شعره صوراً - لفظية - للكثير من الأشياء، فيراها القارئ بعين خياله، وكأنها صور واقعية، يقول المتنبى:

فَسِرتُ  وَقَد  حَجَبنَ  الشمــسَ  عَنّـى
وَجِئنَ   مِنَ  الضِيـــاءِ  بِما   كَفانـــي
وَأَلقى  الشَـرقُ  مِنهـا  في   ثِيابــــي
دَنانيـــراً    تَفِــــــرُّ   مِنَ   البَنـــــانِ
لَها   ثَمَــــرٌ   تُشــيرُ   إِلَيـــــكَ   مِنهُ
بِأَشرِبَـةٍ    وَقَفــــنَ   بِــلا   أَوانــــي
وَأَمـواهٌ   يَصِـــــلُّ   بِهـا   حَصَــــاهُ
صَليلَ   الحَليِ  في  أَيدي  الغَوانـــي


فهذه الدنانير التى تفر من البنان، وهى بقع الضوء التى تتسلل إليه من خلال أوراق الشجر، وهذه الثمار التى هى أشربةُ وقفن بلا أوانى، التى يراها القارئ أو السامع، ما هى إلا أشياء يراها بعين خياله، كأنه يرى لوحات تصويرية حقيقية، وهذا الصليل الذى تصنعه المياه الجارية على الحصى، وكأنه صليل الحُلِّى فى أيدى الغوانى، أنما هو صوت خيالى يجسده الشاعر ليسمعه القارئ أو السامع، وكأنه صوت حقيقى يأتى إليه من الطبيعة ذاتها، وهذه قدرة الشعر على التصوير.
وهكذا، فإن فى كل من القصائد، أو بيتٍ من الشعر، أو فى أغلبها نجد هذه الظاهرة، صورة متخيلة موصوفة، أو أصوات متخيلة موصوفة.
- والشعر يشتمل على الأفكار والتماعات الذهن، وعلى الوقائع والحكم والأمثال، وفى نفس الوقت، فهو يشتمل على بيانٍ لنزعات العاطفة والوجدان، وينقل الإحساس بها من الشاعر إلى القارئ أو السامع، بحيث يحس بها وكأنها تحدث له هو.
- والشعر يُغلّف كل هذه الأفكار، والصور، والأحاسيس، بغلاف شفاف من الموسيقى، موسيقى ظاهرية ناتجة عن الوزن والقافية، أو موسيقى داخلية تتصاعد بطريقة غامضة من التراكيب الداخلية للأبيات، ومن معانى الكلام، لا من الآلات الموسيقية، الوترية أو النحاسية.
- وقد انخرطت أمم كثيرة - إن لم تكن كل الأمم، فى إنشاء الشعر وقوله، أو فى كتابته وتدوينه - وبلغت كل منها فى ذلك شأواً قريباً أو بعيداً، الأمة الإغريقية، انتجت شعراً غزيراً وجميلاً، تمثل فى الياذة هوميروس، وفى المسرحيات التراجيدية والكوميدية التى كتبها الشعراء الإغريق وقدموها على المسارح، والأمة الرومانية أنتجت شعراً رائعاً أدهش الدنيا، والأمة الانجليزية التى أنتجت شعراً رائعاً، كما تمثل فى روائع شكسبير المسرحية والغنائية، وفى أشعار الرومانسيين وشعراء البحيرات، بايرون وشيلى ووردزورث وكوليردج، وغيرهم. والأمة الفرنسية كما تمثل فى أشعار هيجو ولا مرتين وراسين وموليير، وبودلير، وغيرهم. والأمة الألمانيه كما تمثل فى أشعار جوته وهاينى وغيرهم. والأمة الروسية كما تمثل فى أشعار بوشكين ومايكوفسكى وليرمنتوف وتورجيينيف وغيرهم. والأمة الهندية، كما تمثل فى أشعار طاغور، واقبال وغيرهم. والأمة الفارسيه كما تمثل فى أشعار الفردوسى والخيام والسعدى والشيرازى، وغيرهم.
ولكن كل ذلك شئ، والشعر العربى شئ آخر، الشعر العربى هو الأهم والأبقى والأقوى والأجمل فى الدنيا بأسرها، هو الأهم لأنه كان ومايزال يمثل ركناً أساسياً من أركان الوجود العربى، والتراث الفكرى والثقافى والفنى والروحى والحياتى للأمة العربية، وهو سجل تاريخها وحياتها، وتقاليدها، وفضائلها، ومثلها العليا، وفوق ذلك، فهو المصدر الأول لإشباع حاجتها إلى المتاع الروحى والوجدانى.
- وإذا صح أن يقال إن الشعر هو "ديوان العرب" فإنى أقول: والشعر أيضاً هو "بستان العرب" - لأنه المجال الأول لراحتها ومتاعها الفنى والفكرى".
- فلماذا أصبح للشعر العربى كل هذا القدر من التميز على أشعار الأمم الأخرى؟
يرجع ذلك إلى عدة خصائص تتوافر لهذا الشعر، كما لا تتوافر لأى شعر آخر، منها:
- خصائص للشعر العربى ذاته، تتمثل فى أنه يقوم على دعائم فكرية، كما يتمثل فى التيار الإنسانى والتيار العقلانى - كشعر المعرى والمتنبى وغيرهما، وعلى دعائم عاطفية ووجدانية كما يتمثل فى شعر أبى تمام والبحترى والعذريين، وهو بهذا يخاطب العقل والوجدان فى آن واحد.
- والشعر العربى يعتمد على دعامة أخرى أساسية، وهى دعامة فنية، هى موسيقية هذا الشعر، وتتمثل فى انفراد الشعر العربى بظاهرة الوزن والقافية اللتان تتأتى بهما الموسيقى الظاهرة للشعر العربى - والمعروف أن الشعر العربى هو كلام موزون مقفى، وفى الموسيقى الداخلية لهذا الشعر التى تتأنى من التراكيب الداخلية للأبيات، ومن الأفكار والمشاعر التى ترد فيها.
- وخصوصية الشعر العربى تأتى من خصوصية اللغة العربية، وما تتسم به من ثراء، ومن غزارة وخصوبة، ومن مرونة وليونة، تجعلها سهلة التشكيل عند الشاعر المقتدر، وفقاً لمقتضيات المعنى، ومقتضيات الموسيقى.
- وخصوصية الشعر العربى، تأتى من خصوصية البيئة العربية، وهى بيئة سهلة منبسطة، تتفق مع متطلبات الجو الشاعرى الملائم.
- وخصوصية الشعر العربى، تأتى من خصوصية الشاعر العربى، والانسان العربى، ومن تمتع كل منهما بسعة الخيال والنزعة المثالية، التى يقتضيها الشعر، وبمثاليته، وتطلعه الى الكمال.
- إن الشعر العربى هو نبت طبيعى نشأ فى أحضان الأرض العربية، الأرض الفسيحة الرحبة، فى الجزيرة العربية وما جاورها من الأقطار، وهى ساحة مهيأة لاستقبال وتنمية هذا النبت الوليد، وكما أن النباتات وأنواع الفاكهة والزهور، ينمو كل منها ويجود فى أرض بعينها، فكذلك الشعر وغيره من الفنون، لكل منها خصائص تجعله يجود فى أرض بعينها، وخصائص الشعر العربى تجعل من الأرض العربية، والبيئة العربية، أفضل أرض، وأفضل بيئة لنشأة وازدهار هذا الشعر.
- وقد استقبلت الأرض العربية، والبيئة العربية، والانسان العربى، هذا الوليد - الشعر العربى - بكل ترحيب، وأولته كل اهتمامها، فوفرت له فرصاً للنمو والأزدهار، منها أنها أنشئت سوقاً للشعر العربى، هى سوق عكاظ الذى كان يجتمع فيه الشعراء، لعرض بضاعتهم من الشعر، كما يجتمع فيه محبو الشعر لسماعه، ومنها أنها وضعت نظاماً لأختيار أفضل القصائد، وكتابتها، وتعليقها على أستار الكعبة تكريماً لها.
كما اشتغل كثيرون باشغال تتصل بالشعر من مختلف جوانبه، اشتغل كثير من الشعراء بالتكسب بالشعر، عن طريق المدائح التى كانوا ينشئونها ويتكسبون منها، وعن طريق رواة الشعر الذين كانوا يعيشون من حفظ الشعر وروايته، وعن طريق نساخ الشعر وبائعيه، وعن طريق المغنين بالشعر.
وقد اتجه كثير من المستشرقين والعلماء والكتاب فى الغرب إلى دراسة الشعر العربى، وكان أكثرهم ممن أعجبوا وانبهروا به، ومن أعظم هؤلاء، الشاعر الألمانى العظيم، يوهان جوته - كبير الشعراء والكتاب الألمان فى عصره، والذى ترك ديواناً ضخماً باشعاره، كما ترك روايات ومسرحيات عديدة وشهيرة، منها آلام ڨيرتر، وفاوست، وغيرها من المؤلفات.
والمعروف أن جوته، قد انبهر بعظمة وجمال الشعر العربى، وأنه تعلم اللغة العربية واطلع على كثير من الأشعار والملاحم العربية، وتأثر بعدد من الشعراء العرب، مثل المتنبى، وأبى تمام، والمعلقات، وقام بترجمة العديد منها إلى اللغة الألمانية، كما أنه قرأ لفحول الشعراء العرب مثل امرئ القيس، وطرفه بن العبد، وعنتره بن شداد، وزهير بن أبى سلمى، وقد استعان بشعر المتنبى فى روايته "فاوست"، وقال عن اللغة العربية:
" ربما لم يحدث فى أى لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط، مثلما حدث فى اللغة العربية، وأن هناك تناسق غريب بينها فى ظل جسدٍ واحد".
وقال جوته، إن الشعر العربى هو أقوى وأجود وأجمل شعر فى العالم.
وقال: إن العرب أمة شاعرة، وأن كل العرب يولدون شعراء.

الفصل الثانى: كيف أصبحت شاعراً



كيف أصبحت شاعراً:
  لم أتعلم الشعر فى مدرسة أو جامعة، ولم أدرس علم العروض لأعرف كيف تقام موسيقى الشعر بالأوزان والقوافى، والموسيقى الخارجية والداخلية التى ينبغى تحقيقها والالتزام بها، وحتى اليوم فإنى لا علم لى بعلم العروض، سوى بعض العلم ببحور الشعر، وأسمائها، وببعض المعرفة ببعض عيوب الوزن والقافية التى قد يقع فيها الشعراء.
وقد كنت قد بدأت فى دراسة علم العروض فى مستهل حياتى، غير أننى توقفت عن استكمال هذه الدراسة، بعد أن شعرت بنفور شديد من الاستمرار فيها.
ومع ذلك، فالشعر الذى كتبته يخلو تماماً من أية أخطاء من هذا القبيل. فكيف كان ذلك؟.
الصحيح أن أقول: إننى لم أتعلم الشعر، بل "تشربته"، فكيف تشربته؟ عرفت الشعر وأحببته وتشربته وتذوقته من ثلاثة موارد:
الأول: هو ديوان والدى الشاعر محمد توفيق على.
والثانى: هو كتاب المنتخب من أدب العرب.
والثالث: هو ديوان الشعر العربى.
   وأعود إلى بيان لهذا القول الموجز:
الأول: ديوان والدى الشاعر الراحل محمد توفيق على -
وأقول فى ذلك: إنه بعد وفاة والدى فى أول سنة 1937، بسنتين، وقعت دواوينه المخطوطة الخمسة فى يدى بعد محاولات ومغامرات لا محل لذكرها هنا، ومنذ حدث ذلك، فقد دأبت على قراءة هذه الدواوين المرة تلو المرة، والأنغماس فى تلك القراءة بكل عقلى، وبكل مشاعرى ووجدانى، كان ذلك بسبب حبى لوالدى، وإدراكى أن هذا الشعر، هو جزء حىّ منه، وأنه هو حلقة صلة بين روحى وروحه، وكان ذلك بسبب جمال هذا الشعر، وروعته، التى أخذت تتسرب إلى داخلى، وتسيطر على كل مشاعرى وأحاسيسى، وأخذت أحس بأن هذا الشعر أصبح جزءاً منى، وأننى أصبحت جزءاً منه، حتى أننى بعد ذلك، ومن كثرة ما قرأته، أصبحت أكاد أحفظه عن ظهر قلب.
والثانى: هو كتاب المنتخب من أدب العرب: 
وكان هذا الكتاب يتكون من أربعة أجزاء، ويوزع جزء منها على تلاميذ المدارس الثانوية كل عام، خارج المقرر الدراسى، وبهدف رئيسى هو مساعدة التلاميذ على معرفة المزيد من اللغة العربية، وأدابها. كان كتابا أشرفت على إصداره مجموعة من كبار أساتذة الأدب العربى مثل: طه حسين، أحمد أمين، على الجارم، عبد العزيز البشرى، أحمد ضيف. وكان مطبوعاً طباعة جميلة فى المطابع الأميرية، ويوزع على التلاميذ بالمجان، تباعاً، جزء منه كل عام من أعوام الدراسة من السنة الأولى إلى السنة الرابعة الثانوية، توخياً لتحقيق أثره الحميد فى الارتفاع بمستواهم اللغوى، والأدبى والثقافى.
- ومنذ وقعت عينى على هذا الكتاب، وبدأت أقرأ فيه، وفيما جاء فيه من الأشعار المنتخبة من ديوان الشعر العربى فى كل العصور، وقعت فى أسره، وفى أسر ما به من الأشعار.
كانت هناك أشعار مختارة من شعر ابى العلاء المعرى، والمتنبى، وأبى تمام، والبحترى، وأبى نواس، والشريف الرضى. وغيرهم.
وكانت هناك أشعار جميلة لشعراء آخرين، أقل شهرة من هؤلاء المشاهير، ولكنها كانت أشعاراً فاتنة جميلة.
وحتى الآن مازلت أذكر قصيدة منها، تعتبر جوهرة من جواهر الشعر العربى، بل والعالمى، قصيدة فاتنة غريبة فى نوعها، لشاعر من شعراء صدر الإسلام هو مالك بن الريب التميمى، قالها وهو مشرف على الموت بسبب إصابته البالغة من عضة أفعى، خلال مشاركته فى إحدى الغزوات، التى شنها الجيش الإسلامى فى بلاد فارس، وهى قصيدة شجية فى رثاء النفس، مازلت أحفظ الكثير من أبياتها.
يقول مالك:

ألا  ليـت  شعــري  هـل  ابيتنّ  ليلـــهً
بوادي الغضا أُزجي القِلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع  الركبُ عرضَـه
وليت  الغضا  ماضى  الرّكاب  لياليـا
لقد كانَ في ارض الغضا لودنا الغضا
مـــزارٌ   و لكنّ  الغضــا   ليس  دانيا
....

ويقول:

أُقلبُ  طرفى فوق رَحلى  فـلا  أرى
بها  من  عيون  المؤنسات   المُراعيا
وبالرّمل   منا  نســوةًّ   لو   شهدنني
بكين    وفدّيــن   الطبيب    المداويــا
فمنهن  أُمـى،   وابنتاهـا،  وخالتـــى
وباكيةُ     أخـرى   تهيـج    البواكيـــا
.....

ويقول:

تذكرت  من  يبكي  عليَّ   فلم  أجد
سوى  السيف والرمح  الرُديني  باكيا
وأحمـــر  قنذيــذ   يجُــر  عنـانـــه
الى  الماء   لم  يترك  له  الدهر ساقيا

- كما أذكر قصيدة أخرى لشاعر من شعراء ما قبل الإسلام، اسمه المثقب العبدى، يقول فيها:

أفاطــــمُ    قبـــلَ    بينـكِ   متعينــى
وحقِـك   مـا  سألتُــكِ   أنْ   تبينــــى
فـــلا  تَعـِـدى    مَواعـِـدَ    كاذِبــاتٍ
تمـرُ   بها   رياحُ   الصيفِ   دونـى
فإنــى   لـــوْ   تُخالفنـى     شِمالــى
خلافكِ   ما   وصلتُ   بها   يمينــى
إذن   لقطعتُهـــا،   ولقُلــتُ   بينــى
كـذلك    أجتـــوى    منْ   يجتوينــى
.....

- ثم يقول:

لِمَن  ظُعُـنٌ  تَطَالَّـــعَ   مِن   بعيـــد
فَمـا   طلعتْ  مِنَ  الوادي   لِحيـــــنِ
أُمِرَّ  على  شِـراف  فـذات   رَحْــلٍ
ونكبــن    الذرائـــع    باليميـــــــــن
وهـن  على   الركـــاب   منكبــات
طويـلاتُ    الذُّوائبِ    والقــــــرونِ
.....
ثم ينتهى إلى غرضه الرئيسى، وهو مدح ممدوحه "عرابة" بمديح يبدأه بداية رائعة بقوله:

إذا  مــا  رايــةُ   رُفعـت   لمجـــــدٍ
تلقـاهـــــا     عَـرابـــةُ      باليمـــين
             
كنت أقرأ هذا الشعر باعجاب وانبهار بقوته وجماله، وبتلقائيتة وبكارته، وأشعر أن هذه الصفات تنصب فى مشاعرى ووجدانى انصباباً، وتترك فىّ أثراً لا يُمحى.
كما كنت أقرأ فى المنتخب، شعراً جميلاً آخر، للشعراء المعروفين فى مختلف عصور الشعر العربى، الشعراء الجاهليين وأصحاب المعلقات، وشعراء صدر الاسلام، والدولة الأموية، والدولة العباسية الأولى، والعباسية الثانية، والدولة الفاطمية، وشعراء الأندلس، .. إلخ.. إلخ، بمن فيهم من أعلام الشعر فى تلك العصور، كأبى العلاء المعرى، والمتنبى، وابى تمام، وابن الرومى، والبحترى، والشريف الرضى، وأبى نواس، وابن زيدون، وغيرهم، وغيرهم.
وكنت انهمك فى كل تلك القراءات، وأنبهر بها، وأشعر بعد كل قراءة، أننى أزداد حباً للشعر وفهماً له، وقدرة عليه.
والثالث: هو دواوين الشعر الكثيرة التى كانت تقع فى يدى، والتى كنت أتلهف على قراءتها، ومنها دواوين أعلام الشعر فى عصوره المختلفة السابقة.
ودواوين لشعراء معاصرين، ابتداء من البارودى، وشوقى وحافظ، والعقاد ومطران وعلى محمود طه، ومحمود حسن اسماعيل، وأبى القاسم الشابى، وشعراء المهجر، وغيرهم.
- كانت قراءة الشعر هى أعظم متعة لى فى الحياة، وفى كل مرة كنت أقرأ فيها شعراً، أشعر بأن شيئاً جديداً قد أضيف الى عقلى وفكرى، وإلى روحى ووجدانى، ومن ثم إلى قدراتى كشاعر.
- على أننى لم أحاول ولم يخطر فى بالى أن أقلد أحداً من الشعراء الآخرين، ولم أحاول أن اعارض أحدا ً أو أنسج على منواله، وكل استفادة من جانبى من هذا الشعر، انما كانت بطريق تلقائى، وغير متعمد، كما يترسب الماء أو الغذاء، فى جسد الجائع أو الظمأن.
- وهكذا يمكننى أن أقول، إن الشعر هو الذى علّمنى الشعر، وجعلنى شاعراً، وذلك إضافة إلى الملَكة والموهبة التى حبانى بها الله تعالى، واغدقها على من فيض علمه اللدنى، كما من أفضال الوراثة التى فطر الله الخلق عليها.
- وساعد على تغذية ملكه الشعر عندى، أننى كنت أعيش فى بيئة عامرة بعشاق الشعر، وبالشعراء الناشئين، وخاصة فى مدرسة حلوان الثانوية، وفى القسم الداخلى، حيث كانت فرصة اللقاء والمشاركة وتبادل الأفكار أكبر وأيسر.
- كان معى من مصر صديقى الشاعر كمال عبد الحليم، ومن السودان كل من الشاعرين عمر محمد الطاهر، وصادق عبد الله عبد الماجد، ومن اليمن إسكندر ثابت العدنى، ومن لبنان كمال يقظان، ومن السعودية عدنان أسعد. وكان كل هؤلاء شعراء، وكانت الفرصة متاحة بينى وبينهم لتبادل الآراء حول الشعر، ولتبادل سماع أشعارنا الناشئة.
- وقد أوردت فيما يلى من هذا الكتاب الكثير من أشعار كمال بعد أن نضجت شاعريته، ولكن شاعريته ونحن فى حلوان لم تكن قد نضجت كل هذا النضوج، ولكنه كان قد بدأ يقرض الشعر، ويلقيه على مسامعنا.
- وكان عمر محمد الطاهر الذى أصبح فيما بعد قاضياً كبيراً، وشاعراً معروفاً فى السودان، يلقى علينا أشعاره الجميلة، التى كانت منها قصيدة مازلت أحفظ بعض أبياتها - تقول:

إن  وادى  النيـل، والنيـلَ  السعيــــدْ
لم   يَطـب  إن  ينتهل  منه  العبيــــد
كـل  كــرمٍ  فيـه أو  عقدٍ   نضيــــــد
ودّ هـذا الـرِىِّ  من  جُـرح  الشهيـــد
يـا  شبــاب  النيـل  رُفــاعِ   الجبـــاه
مجــدُ  وادى النيـل لـم  يبلغ مـــــداه
بالعنـا   والضيـم   نيطــتْ   قدمــــاه
كـل   فــــردٍ   فيـه  عبــدٌ   لســــواه
فانتبــه   يـا   نيــل   إن    الأممـــــا
للعُــلا   والمجـد   ســارت   قـدمـــا
نحّ   عنـك   القيـد،   هــات   العَلمــا
وليكـن   يـا   نيــل   مجـراه   دمـــا

وكنا نتراسل فى أيام العطلات الصيفية، حيث كان كل منا يذهب ليعيش فى بلاده، وكان صادق عبد الله عبد الماجد يراسلنى فى بلدتى زاوية المصلوب، وأراسله على بلدته أم درمان.
- كتب إلىَّ صادق، وأرفق بخطابه قصيدة يقول فيها:

أفى مصرَ يبكى الشوق  ولهان  باكيا
ويترك  فى  السودان من بات شاكيــا
ويتـرك  فى  السـودان  إلفـاً  مُبّرحــاً
تعـاوده   الذكـرى   فيــرثى   لحاليـــا

وقد رددت عليه بقصيدة قلت فيها:

أصادق  قد  شطـت  بنا غُربة  النـوى
ومن  لى بمن يهوى النوى يا صحابيا
ظمئتُ إلى  الأحبـاب لا كنت  شاكيــاً
ولا  كنـت  ولهانــا،  ولا كنـت  باكيـا
ولا كنت تشكو ما بى اليوم من  جوى
وأنت  الذى  تــدرى  وترثى  لحاليـــا
إذا لاح  نجــمُ فى  دُجـى الليـل  خلتـه
عــلاك  فـلــم  أحـفـل  بهــمٍ  بـداِليّـــاَ

- وكان اسكندر ثابت العدنى الذى أصبح بعد ذلك شاعراً وكاتباً وموسيقياً شهيراً فى عدن، يكتب الشعر، ويغنيه ويلقيه علينا فى المناسبات وحفلات السمر.
وكنا "نقرمز" بالشعر فى أمور حياتنا العادية، ونتبادل هذه الأشعار ونتفكّهُ بها.
- وكان كل ذلك بمثابة تمرين لنا على قول الشعر، وتدريب لنا على تجربة أوزانه وقوافيه، مما ساعد على تقدمنا كشعراء ناشئين، أو "تحت التمرين".
- وكل هذه العوامل، قد ساهمت فى تكوينى كشاعر، وأضافت إلى موهبتى الموروثه، قدرات مكتسبة على فهم الشعر، والإحساس به، ثم على إبداعه وإنشائه.