الفصل الرابع: قرية ظالمة، وشعراء مظلومون

- أما القرية الظالمة فهى الوطن الذى نعيش فيه، والذى يعيش فينا، وهى هنا، مصرنا الحبيبة الغالية، وعالمنا الرحب الفسيح، بكل ما فيهما من أسباب للفرحة والإسعاد، أو للحزن والتعاسة والشقاء.
- والمظلومون هم هؤلاء اللذين تعرضوا لوطأة الحزن والتعاسة والآلم سواء فى مصرنا العزيزة أو فى عالمنا الفسيح، وسواء كانوا يعيشون معنا فى هذا الزمان، أو فى أزمنه سابقة، هم هؤلاء الناس جميعاً، وخاصة الشعراء والفنانون والمفكرون - ومن شابههم من الناس.
- هم الشعراء فى سائر عصور الشعر العربى - وما تلاه من العصور - من العصر الجاهلى حتى عصرنا الحديث.
- من عصر الملك الضليل: امرئ القيس، الذى قال واصفا بؤسه وضياعه: ضيعنى أبى صغيراً، وحملنى دمه كبيراً.
- ومن عصر النابغة الذبيانى الذى وصف حاله وهو يعيش فى قبضة الخوف والفزع، فى مواجهة خطر داهم يطارده ويتهدده، ويقول:

أتانـي  أبيتَ    اللعـنَ   أنكَ   لمتنــي
وتلك  التى تصطك  منها المسامِـعُ
فبتُّ   كـأنّى    سـاورتنـى   لئيمــــة
من  الرُقش فى أنيابها السـم  ناقــع
فإنـك   كالليـل  الذى   هو  مدركــى
وان   خلت أن المنتأى عنك  واسعِ

ويقول:
ورحت  كأن  العائدات  بسطن  لــى
هراساً  به بما يعلى  فراشى  ويُقشـب
فإنـك  شمـس  والملـوك  كواكـــــب
إذا  طلعَـتْ لـم  يبـدُ  منهـن  كوكــب

- ومن عصر المتنبى الذى يقول فى وصف حاله وشكوى زمانه:

رمانى  الدهــــر  بالاحــداث  حتى
فـــــــؤادى  فى  غشــاءٍ  من  نبــالِ
فصــرْتُ   إذا  أصابتنـى    سِهـــــامٌ
تكسّـــرت  النصـالُ  على  النصــالِ

والذى يقول:

يا    سَاقِيَيَّ   أخَمْرٌ   في    كُئوسكُمــا
أمْ   في   كُئوسِكُمَا  هَمٌّ   وَتَسهيــدُ؟
أصَخْرَةٌ   أنَا،  ما  لي  لا   تُحَرّكُنــي
هَذِي  المُدامُ  وَلا  تلك  الأغَارِيــــدُ

وفى عصرنا الحديث، يقول البارودى فى وصف حاله وما يعانيه فى زمن شيخوخته وعجزه وضعفه:

أصبحتُ لا  أستطيعُ  الثوبَ  أسحبـهُ
وَقَدْ  أَكُونُ  وَضَافِي الدِرْعِ  سِرْبَالِي
وَ لاَ  تكادُ  يدي  تُجرى  شبا   قلمـي
وَكَانَ   طَـوْعَ   بَنَانِـي   كُلُّ  عَسَّــالِ

- ويقول واصفاً حزنه وفجيعته لفقد زوجته وعشيرته:

يــا  دَهْرُ،  فِيمَ    فَجَعْتَنـِي    بِحَلِيْلَـة
كانَتْ   خَلاصَـة  عُدَّتِي  وَعَتَــادِي
إِنْ كُنْتَ  لَمْ  تَرْحَمْ   أساى   لِبُعْدِهــا
أفلا   رحِمتَ  منَ  الأسى  أولادى

- وفى ماضينا القريب يقول شاعر النيل - حافظ إبراهيم - واصفاً حاله، وما يعانيه من ظلم سياسى واجتماعى:

سَعَيْتُ  إلى  أنْ  كِدْتُ  أَنْتَعِلُ   الدَّمـا
وعُدْتُ   وما  أعقبتُ   إلاَّ  التَّنَدُّمَــا
لَحَى  اللهُ  عَهْدَ  القاسِطِين  الذي  بـه
تَهَــــدَّمَ   منْ   بُنياننَا  مـا   تهدَّمَـــا
إذا  شِئْتَ  أنْ  تَلْقَى  الكرامة  عندهم
فلا  تَكُ   مِصْريّاً  ولا  تَكُ   مُسْلِما

- ويصل عبد الحميد الديب - الشاعر الصعلوك - فى ثورته وغضبه من حالة الضياع التى تحاصره من كل الجهات - ليصل إلى حالة تشبه الجنون، فيعبر عن ذلك بشعر يتجاوز كل حد فى حدته وسلاطته، ويكفى أن نشير هنا إلى قصيدته المشهورة التى يبدأها بقوله:

دع الشكوى، وهات الكأس نسكـر

ومن الواضح أن ما فى هذا الشعر من سلاطة وحِدّة وفحش، وعدوانية، إنما هو رد فعل لما كان يعانيه من ألم وبؤس لا يحتملان.
- كثيرة هى أسباب التعاسة والشقاء الذى كان - ومازال يحسه الناس،  من شعراء وغير شعراء، فى بلاد كبلادنا، وفى بلاد كثيرة أخرى من بلاد العالم، كانت أوضاعها تشابه أوضاعنا - أو تكاد.
- فى كل هذه البلاد كان هناك دائماً: الاستعمار، والاستبداد، والاستغلال، وكان هناك دائماً الفقر والجهل والمرض، وكان هناك دائماً الظلم بأشكاله وألوانه ومظاهره المختلفة. ظلم الأيام، وظلم الإنسان للإنسان، وأما ظلم الأيام فهو ظلم قدرى لا حيلة للإنسان فيه، وإن كان يرجع فى كثير منه إلى أسباب بعيدة للإنسان دخل فيها، أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية. وأما ظلم الإنسان للإنسان، فهو ظلم له سمات قريبة ظاهرة وواضحة، للإنسان، وللمجتمعات دخل كبير فيها - وفى أسبابها - وفى المسئولية عن وجودها، أو عن استمرارها، على أن للظلم سبب أقوى من كل هذه الأسباب، وهو أن سبب الظلم يكون عادة هو الظلم نفسه، ذلك أن كثيراً من الناس يعانون فى فترة من حياتهم ظلماً يترك فى نفوسهم وعقولهم من الآثار والتشوهات والعقد، ما يجعلهم يتحولون بدورهم - عندما تتاح لهم الفرصة، إلى ظلم الآخرين وإيقاع الأذى بهم، شفاء لأنفسهم المريضة. وهكذا يتحول الظلم إلى ميراث تتناقله الأجيال من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل.
- وأما عن ظلم الأيام والأقدار، فإن معظمه يرتبط بأحداث الموت والحياة، وبظاهرة الفقد، وما تحدثه للإنسان من آلام واحزان، وبعامل الحظ وسوء الحظ، وما يتصل به من سعادة أو شقاء فى الحياة الشخصية والعاطفية، ولذلك يقول الكثيرون إن الهوى، والسعادة فيه أو التعاسه إنما هما قضاء وقدر، رغم ما يتصل بها من عوامل موضوعية أخرى.
- وأما عن ظلم الإنسان للإنسان، فإن له أنواعاً عديدة:
- هناك الظلم المتمثل فى العدوان المباشر، الذى يقع من الظالم على المظلوم والذى تتعدد أشكاله، فهناك الجريمة الإيجابية، والجريمة السلبية - بالاهمال أو الامتناع، وحتى فى جريمة القتل، فإن لها أشكالها ووسائلها المختلفة.
وفى ذلك أقول فى قصيدة لى - هى قصيدة شجيرة: (1)

كنت   عرفـت   الرمـى   بالسهــــام
والقتـل    بالرصـــاص   والسكـــين
ومــــا   عرفــت  القتـل   بالكـــــلام
ولا   بسيــف   الحكمـة   الرصـــين
___________________________________________
(          (1)   ديوان: أنشودة للوادى المقدس.


- إن اسباب التعاسة تصيب البشر جميعاً، ولكن الشعراء - وأشباههم من الكتاب والفنانين والمفكرين، هم أكثر الناس إصابة بها، ووقوعاً تحت تأثيرها، ذلك لأنهم هم الأكثر وعياً بها، وإحساساً بأثارها لما يتميزون به من رهافة الحس والوجدان، ومن حيوية الخيال.
- ولهذا فقد أردت فى هذا الباب من هذا الكتاب، أن أقصرها على عدد من الشعراء، الذين تعرضوا للظلم، ممن عرفتهم وارتبطت بهم وجدانياً وعاطفياً، ووقفت على مدى ما لا قوة فى حياتهم - كأشخاص وكشعراء - من ظلم واجحاف، ومن ألم، ومن تعاسة وشقاء، وإذا كانت دواوينى الستة قد احتوت عدداً كبيراً من قصائد الرثاء لأشخاص كثيرين، من مختلف الأوضاع والانواع، وكلهم كانوا ممن
كنت أحبهم وأقدرهم حق التقدير، والذين صدرت قصائدى عنهم عن حب واقتناع صادقين، فإننى أردت أن أقصد بحثى على شعراء أربعة، أعتبرهم هم الشعراء المظلومون فى زمانى هذا، أو هم الشعراء الأكثر ظلماً فى هذا الجيل، وهم:
1- أبى الشاعر العظيم محمد توفيق على - أبى وأستاذى الذى أعتبره هو المظلوم الأول فى عصره.
2- أخى وصديقى - الشاعر يوسف صديق - الذى أعتبره هو الانسان والشاعر المظلوم الثانى - فى هذا الجيل.
3- أخى وصديقى الشاعر الكبير محمد كمال عبد الحليم.
4- وأخيراً، أنا - الشاعر محمود توفيق.
وأعرض لأمرهم، تباعاً فيما يلى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق