12- الفصل الحادى عشر: فى رياض الشعر العربى



- يقول الشاعر العظيم أبو تمام: (حبيب بن أوس الطائى) عن الشعر:
ولولا  خِلالٌ   سنّها   الشعر   مادرى
بناةُ   العُلا  من  أين   تؤتى المكارِمُ

وأقول أنا عن الشعر:  (1)
تبوأتَ  عَرشَ  الشِعرِ  فارتِّد  للصِبا
فأنتَ   أميرُ  الشِعرِ   والأُمُّ   والأُبُ
حَدَائقَ  من   وَرْدِ   الكلامِ   غَرَسْتها
تفيضُ  على  الدنيا  عبيراً   وتسكُب
خلَعْتَ  عليه    النُبْلَ    لفظاً   وغايةً
فصار  له فى  النبل  شَرْعٌ  ومَذهَب
إذا الشعر  لم  يُحْىِّ  المكارمَ  والعُلا
فلا  خيرَ   فيه  حين   يتلـى  ويُكتب

- ويتضح من هذا أن للشعر وظيفتان أساسيتان:
الأولى: أنه مصدر إمتاع وإشباع فنى وروحى باعتباره فناً رفيعا، بل هو أعظم الفنون عند العرب لأنه يجمع بين خصائص تلك الفنون، بالإضافة إلى أنه ناطق بالحكمة والوضوح الفكرى.
والثانية: هى أنه الحافظ للقيم والمبادئ والمُثل العليا عند العرب، والداعية إليها.
ويمتاز الشعر العربى بالوفرة والغزارة والتنوع، وتعدد تياراته ومناهجه وتعددها، مما يجعله بستاناً بهيجاً، تتعدد ألوان زهوره، كما تتعدد بهجة عطوره.
وكما يقال إن الشعر هو ديوان العرب، يمكن أن يقال أيضاً – إن الشعر هو بستان العرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
(1)   فى قصيدة "الشمس الغاربة" فى مدح أخى العزيز – الراحل عبد الرحمن الشرقاوى – ديوان: قصائد فى الحب والحزن.



وها نحن ندخل إلى هذا البستان، لنُمتع أرواحنا بجمال أزهاره، وروعة ألوانه، وتنوع عطوره. وها أنا أعرض على القارئ العزيز باقات من هذه الزهور اليانعة:
أولاً: من روضة الشاعر العظيم أبو العلاء المعرى:  وهو الشاعر الفيلسوف الضرير، صاحب الديوان الزاخر، وصاحب ديوان لزوم مالا يلزم، الذى لم يكتب مثله أحد، وصاحب رسالة الغفران التى قدم فيها المعرى وصفاً عبقرياً للحياة الآخرة، التى لم يرها هو، ولا رآها أحد سواه.
يقول فى واحدة من أعظم وأجمل قصائده، وهى التى قالها فى الرثاء:-
يقول:
ليس  يُجدى  في  مِلّتي   واعْتِقــادي
نَــوْحُ   بــاكٍ   ولا   تَرَنّـــمُ  شــادِى
وشَبِيهٌ عندى صَوْتُ  البشير إذ غنى
وصَــوْتُ  النّعـيّ   فى  كلّ   نــادِى
أَبَكَـتْ  تِلْكُــمُ   الحَمَامَـةُ  أمْ  غَنْنَــت
عَلى    فَــرْعِ    غُصْنِهـــا    المَيّــادِ
خَفّـــفِ     الوَطْـــأ     مــا    أظُـــنّ
أدِيمَ  الأرْضِ  إلاّ مِنْ  هَذِهِ  الأجْسادِ
سِرْ  إنِ اسْطَعتَ  في  الهَوَاءِ  رُوَيداً
لا  اخْتِيــالاً   عَلى   رُفَـــاةِ   العِبــادِ
فقَبيـحٌ   بنَــا   وإنْ   قَــدُمَ    العَهْـــدُ
هَـــوَانُ       الآبَـــاءِ      والأجْـــدادِ

هذا ما قاله فى معرض الرثاء وما تثيره ظاهرة الفقد من خواطر وشجون، يقف عندها الشاعر الفيلسوف الأعمى وقفة تأمل واعتبار.
- ولكن فى جعبة هذا الشاعر أقوال أخرى، فهو أيضاً شاعر ساخر متهكم، فحين يَطلب منه أهل بلدته معرة النعمان أن يتفاوض بالنيابة عنهم مع واحد من أمراء الحرب – شبه المتوحشين اسمه صالح بن مرداس، كان قد حاصر بلدتهم تمهيداً لأقتحامها ونهبها، لاقناعه بتركها لحالها، وقام المعرى بهذه المهمة الصعبة، ونجح فيها، ورحل المعتدى، ولكن المعرى راح يتهكم على أهل بلدته، بل وعلى نفسه أيضاً، فقال:
بُعِثــتُ    شَفيعـــاً    إِلى    صالِــــحٍ
وَذاكَ    مِنَ    الناسِ    رَأيٌ    فَسَـد
فَيَسمَــعُ    مِنّي    هَديــلَ    اليمــــام
وَأَسمَــعُ     مِنهُ    زَئيــرَ    الأَسَـــد
ويقول عن امرأة كانت تشاغبه وتسخر منه:
وَتَقولُ زومع، قَد دَبَبتَ عَلى  العَصا
هَلّا   تسخرت   بِغَيرِنا   يا   زومع؟

- وهكذا يتنقل الشاعر الفيلسوف الضرير، من قمة الشجن والتأمل الإنسانى العميق، إلى مواقف السخرية والتهكم المر، المضحك المبكى.
2- مع المتنبى:
- وهذه روضة أبى الطيب المتنبى أعظم الشعراء العرب على الإطلاق، وعميد المدرسة العقلانية فى الشعر العربى - ها هو يقول فى معرض الغزل:
لَيالِـىَّ  بَعـدَ  الظاعِنيــنَ   شُكـــولُ (1)
طِوالٌ،    وَلَيلُ    العاشِقينَ    طَويـلُ
يُبِنَّ   لِيَ   البَــدرَ  الَّذي   لا   أُريـــدُهُ
وَيُخفينَ    بَــدراً  ما    إِلَيهِ    سَبيــلُ
وَما عِشتُ    مِن  بَعدِ   الأَحِبَّةِ   سَلوَةً
وَلَكِنَّنـي      لِلنائِبــاتِ       حَمـــولُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)   شكول أى متشابهة، تبعث على الشيق والملل.

- ويقول فى موطن الغزل أيضاً:
مَثّلْتِ  لحظك  في   حَشايَ   جِراحَةً
فتَشابَهـا      كِلْتاهُمــا      نَجْــلاءُ(1)
نَفَــذَتْ   عَلَيّ    السّابِـرِيَّ    ورُبّمــا
تَنْــدَك    فيهِ    الصَّعـدَةُ    الخرقــاء

- ويقول فى الغزل أيضاً:
وما  أنا  بالباغى على  الحُب  رشوةً
ضعيفٌ   هوى   يُبغى  عليه   ثواب

- ويقول فى وصف الحرب، وفى مدح سيف الدولة، القائد الشهير:
عَلى   قَدرِ  أَهلِ  العَزمِ  تَأتي   العَزائِمُ
وَتَأتي   عَلى  قَدرِ  الكِرامِ  المَكارِمُ
وَتَعظُمُ   في  عَينِ  الصَغيرِ   صِغارُها
وَتَصغُرُ  في عَينِ  العَظيمِ  العَظائِمُ
أَتــوكَ   يَجُــرّونَ    الحَديــدَ    كَأَنَّمــا
أتـوا  بِجِيــادٍ  ما  لَهُـنَّ   قَوائِــمُ (2)
خَميسٌ بِشَرقِ الأَرضِ  وَالغَربِ زَحفُهُ
وَفي أُذُنِ الجَوزاءِ  مِنهُ   زَمازِمُ (3)
ضَمَمتَ  جَناحَيهِم  عَلى  القَلبِ  ضَمَّةً
تَموتُ  الخَوافي   تَحتَها  وَالقَــوادِمُ
طرحت  الرُدَينِيّاتِ   حَتّى  حقرتَهـا (4)
وَحَتّى  كَأَنَّ  السَيفَ  لِلرُمحِ   شاتِـمُ
وَمَن  طَلَــبَ  الفَتــحَ   الجَليـلَ   فَإِنَّمــا
مَفاتيحُهُ   البيضُ الخِفافُ الصَوارِمُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السابرى – الدرع القوى – والصعدة الحربة – والخرقاء المجنونة الطائشة.
(2) أى أن الجياد كانت تلبس دروعاً حديدية تسير بها، بحيث لا تظهر أرجلها للعيان.
(3) الزمازم، هى اللغط الذى تثيره الجيوش الزاحفة.
(4) الردينيات: الرماح.


ويقول فى الوصف:
مَغاني  الشِعبِ   طيباً   في  المَغاني
بِمَنزِلَـةِ     الرَبيــعِ    مِنَ   الزَمــانِ
وَلَكِـــنَّ    الفَتـى   العَرَبِـيَّ     فيهــا
غَريـبُ   الوَجـهِ   وَاليَــدِ   وَاللِســانِ
منـازل   جِنَّةٍ   لَــــو   ســارَ   فيهــا
سُلَيمـــانٌ       لَســارَ     بِتَرجُمـــانِ
طَبَـت   فُرسانَنــا   وَالخَيــلَ    حَتّى
خَشيتُ  وَإِن   كَرُمنَ   مِنَ   الحِـرانِ
فَسِرتُ  وَقَد  حَجَبنَ   الشَمسَ  عَنّـي
وَجِئْنَ   مِنَ  الضِيــاءِ   بِما   كَفانــي
وَأَلقى   الشَـرقُ   مِنها   في   ثِيابـي
دَنانيـــراً    تَفِـــرُّ   مِنَ    البَنــانِ (1)
يَقـــولُ   بِشِعبِ   بــَوّانٍ    حِصانـي
أَعَــن  هَذا   يُســارُ   إِلى   الطِعــانِ
أَبوكُـــم   آدَمٌ    سَـــــنَّ   المَعاصـي
وَعَلَّمَكُــــم     مُفارَقَــةَ     الجِنــــانِ
وَلَو   كانَت   دِمَشـقَ   ثَنى   عِنانـي
لَبيـقُ   الثُردِ    صينِيُّ   الجِفـــانِ (2)
يَلَنجوجِيُّ   ما    رُفِعَت   لِضَيفٍ (3)
بِهِ   النيــرانُ    نَــدِّيُّ    الدُخــانِ (4)
تَحِـلُّ   بِهِ   عَلى   قَلـــبٍ   شُجـــاعٍ
وَتَرحَــلُ   مِنهُ   عَن   قَلــبٍ  جَبــانِ

ويقول فى معرض الشكوى – فى رائعتة الشهيرة: عيد بأية حال عدت يا عيد:
عيدٌ   بأيّةِ   حالٍ   عُدتَ   يا   عيـــدُ
بمَا   مَضَى   أمْ   لأمْرٍ   فيكَ  تجْديدُ
أمّــا    الأحِبّةُ    فالبَيْــداءُ    دونَهُــمُ
فَلَيتَ   دونَكَ   بِيداً   دونَهَا   البِيـــــدُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أى بقع من الضوء لا يمكن الامساك بها.
(2) لبيق الثرد – أى أن تريده لين طرى، الجفان: أوانى الطعام.
(3) اليلنجوج – نبات عطرى يوضع فى أوانى الطعام.
(4) ندى – أى صاعد من أعواد الند، وهو نوع من البخور.
(5)  أى أنه لا يهاب حضور الطيف إليه، بل يخاف رحيله.

لَوْلا العُلا لم تجُبْ بي ما أجوبُ  بهَا
وَجْنَاءُ   حَرْفٌ  وَلا  جَناءُ  قَيْدودُ (1)
وَكَـانَ  أليـن  مِنْ  سَيفي   مُضاجعـةً
أشْبَاهُ  رَوْنَقِــهِ   الغِيــدُ  الأمَاليــدُ (2)
يا  سَاقِيَـيَّ  أخَمْــرٌ  في   كُؤوسكُمــا
أمْ  فــي   كُؤوسِكُمَــا  هَـمٌّ  وَتَسهيــدُ
أصَخْرَةٌ  أنَا،  ما  لي  لا   تُحَرّكُنــي
هذه  الكئوس،   ولا تلك   الأغاريــد

3- وفى روضة أبى تمام: حبيب بن أوس الطائى: عميد المدرسة الوجدانية فى الشعر العربى.
- يقول فى معرض المدح، فى إحدى قصائده التى قالها فى مدح المعتصم:
هُو  البَحْرُ  من  أيِّ  النًّواحي   أتيتـه
فلُجَّتُهُ   المعــروفُ  والجُودُ  ساحِلُـهْ
تـراه    إذا    مـا    جـئتَه    مُتهلِّــلاً
كأنَّك   تُعطيـه   الذي   أنت   سَائلُـهْ
تَعوّد   بَسْط   الكفِّ   حتَّى   لو  انـَّهُ
ثناهــا   لِقَبْـضٍ   لـم   تجِبْه   أَناملُـهْ
ولو لم  يكن  في   كفِّه  غير   رُوحهِ
لجَـادَ    بها    فليتــقِ    اللهَ    سَائلُـهْ
- ويقول فى رثاء المعتصم:
وما   كان  بينى   لو  لقيتك    سالماً
وبين   الغنـى    إلا    ليـالٍ    قلائـلُ

- ويقول فى مدح أبى عبدلله أحمد بن أبى دؤاد:
لَمَّا    أَظَلَّتْني    غَمامُكَ     أَصْبَحَتْ
تِلْكَ   الشُّهُودُ  عَلَىَّ   وَهْيَ  شُهُودِي
أَسرى   طَريداً    لِلحَياءِ   مِنَ   الَّتي
زَعَموا،   وَلَيسَ    لِرَهبَةٍ     بِطَريدِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوجناء هى الناقة القوية.
(2) أى النساء البيض كأنهن السيوف اللامعة.


كُنتَ     الرَبيعَ     أَمامَهُ     وَوَراءَهُ
قَمَرُ     القَبائِلِ     خالِد   بنِ     يَزيدِ
وَإِذا    أَرادَ     اللَهُ     نَشرَ    فَضيلَةٍ
طُوِيَت   أَتاحَ    لَها   لِسانَ    حَسودِ
لَولا   اِشتِعالُ   النارِ   فيما  جاوَرَت
ما  كانَ  يُعرَفُ  طيبُ  عَرفِ العودِ

- ويقول فى معرض الرثاء، وقد أوردنا فيما سبق رائيته الشهيرة كاملة، - وهذه أبيات منها:
فتى    كُلَّمَا   فَاضَتْ   عُيونُ    قبيلةٍ
دَماً  ضَحِكَتْ  عنهُ  الأحاديثُ والذِّكُرُ
كَأَنَّ    بَني    نَبهانَ     يَومَ     وَفاتِهِ
نُجومُ   سَماءٍ   خَرَّ  مِن   بَينِها  البَدرُ
يُعَزَّونَ  عَن  ثاوٍ  تُعَزّى   بِهِ   العُلا
وَيَبكي  عَلَيهِ  البَأسُ  وَالجودُ  وَالشِعرُ

- وفى معرض الحديث عن أبى تمام، فإنى أود أن أذكر أن حبى لأبى تمام قد بدأ وأنا فى الثانوية العامة، فقد كنت مشتركاً فى المسابقة التى كانت تجريها وزارة المعارف بين طلبة السنة الخامسة الثانوية - القسم الأدبى - فى الأدب العربى - كل عام، وكان المقرر فى هذه المسابقة يشتمل على ديوان أبى تمام، وقد قرأت الديوان ودرسته فوقعت فى غرام أبى تمام، وشعر أبى تمام، وأديت الأمتحان فنجحت فيه بتفوق، وساعدنى ذلك فى دخول الجامعة - كلية الحقوق بيسر وسهولة.
وكانت المناسبة الثانية التى زادت من حبى واعجابى بأبى تمام وشعره، هى عندما استعنت بأبيات من شعره فى كتابة النعى الذى كتبته عند مصرع شهدى عطية - على ما سبق لى ذكره فى موضع آخر من هذا الكتاب - ومنذ ذلك الحين، وأنا اعتبر أبا تمام استاذاً وصديقاً لى، واعتبر نفسى مديناً له ولشعره، بالوفاء والعرفان.

4- ومن روضة البحترى: أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحىّ، الذى ولد وعاش فى القرن التاسع الميلادى - (الثالث الهجرى)،والذى ملأ الدنيا بشعره الرائع، فى زمانه وحتى هذا الزمان - نقف عند هذه المقتطفات:
- من شعر الغزل:
وَيَــومَ    تَثَنت    لِلــوَداعِ    وَسَلمَــت
بعينين   مقرونُ   بلحظهما   السِحــرُ
تَوَهّمْتُها   ألوَى  بأجفانهَا   الكَــــرَى،
كرَى النّوْمِ، أو مالتْ بأعطافها الخَمرُ
هَلِ  العَيْشُ  إلاّ  أنْ   تُسَاعِفَنَا   النّوَى
بوَصْلِ  سُعَادٍ،  أوْ  يُسَاعدَنا   الدّهــرُ
عَلى    أنّها    مَا   عندها    لمُوَاصِـلٍ
وِصَالٌ،  وَلا عَنها   لمُصْطَبِرٍ  صَبـرُ
إذا ما نَهَى النّاهي،  فلَجّ  بيَ   الهَوَى،
أصاختْ إلى الوَاشِي، فلَجّ بها  الهَجرُ

- ويقول فى قصيدته الفريدة عن الذئب الذى لقيه فى إحدى أسفاره بالصحراء:
سَلامٌ   عَلَيكُـم    لا  وَفــاءٌ   وَلا  عَهــدُ
أَما  لَكُمُو  مِن  هَجرِ  أَحبابِكُم   بُـــدُّ
أَأَحبابَنـا    قَد   أَنجَــزَ   البَينُ    وَعــدَهُ
وَشيكاً   وَلَم  يُنجَز  لَنا  مِنكُمُ  وَعــدُ
أَدارَ   اللِوى   بَينَ    الشقيقهِ   وَالحِمى
أَما  لِلنَوى  إِلّا  رَسيسَ الهَوى  قَصدُ
بِنَفسِـيَ   مَن   عَذَّبتُ    نَفسي   بِحُبِّــهِ
وَإِن  لَم  يَكُن  مِنهُ   وِصـالٌ  وَلا وُدُّ
وَلَيلٍ   كَأَنَّ   الصُبحَ   في    أُخرَياتِــهِ
حُشاشَةُ  نَصلٍ   ضَمَّ  إِفرِندَهُ  غِمـــدُ
تَسَربَلتُـهُ    وَالذِئبُ   وَسنانُ   هاجِـــعٌ
بِعَينِ  اِبنِ  لَيلٍ  ما لَهُ   بِالكَرى  عَهدُ
طَواهُ   الطَوى   حَتّى  اِستَمَرَّ  مَريـرُهُ
فَما  فيهِ  إِلّا  العَظمُ  وَالروحُ  وَالجِلدُ
سَما لي  وَبي  مِن شِدَّةِ  الجوعِ  ما  بِهِ
بِبَيداءَ   لَم  تُعرف  بِها  عيشَةٌ  رَغدُ
كِلانـا   بِها    ذِئبٌ   يُحَدِّثُ    نَفسَـهُ
بِصاحِبِهِ    وَالجَــدُّ    يُتعِسُهُ    الجَــدُّ
لَقَد  حَكَمَت   فينا   اللَيالي   بِجورِها
وَحُكمُ   بَناتِ  الدَهرِ  لَيسَ  لَهُ   قَصدُ
..

- ويقول فى رثائه للخليفة المتوكل، ويصف يوم مصرعه:
وَلَم أَنسَ وَحشَ  القَصرِ إِذ ريعَ  سِربُهُ
وَإِذ   ذُعِرَت    أَطلاؤُهُ    وَجَـــآذِرُه
وَإِذ   صِيحَ   فيهِ   بِالرَحيلِ    فَهُتِّكَت
عَلى    عَجَلٍ    أَستارُهُ    وَسَتائِـــرُه
فَأَينَ  الحِفاظُ  الصَعبُ  حَينُ   تَمَنَّعَت
بِهَيبَتِهـــا     أَبوابُــهُ     وَمَقاصِـــرُه
وَأَينَ  عَميدُ   الناسِ   في   كُلِّ   نَوبَةٍ
تَنوبُ   وَناهي   الدَهرِ  فيهِم  وَآمِرُه

وقال فى قصيدته التى يمدح فيها الخليفة المتوكل على الله، ويذكر صلح بنى تغلب، بعد حرب أهلية طاحنة وقعت بينهم:
وَحَسناءَ  لَم  تُحسِن   صَنيعاً   وَرُبَّما
صَبَوتُ  إِلى  حَسناءَ سِيءَ  صَنيعُها
عَجِبتُ  لَها   تُبدي   القِلى    وَأَوَدُّها
وَلِلنَفسِ   تَعصيني   هَوىً   وَأُطيعُها
...
أَسيتُ   لِأَخوالي   رَبيعَةَ   إِذ   عَفَت
مَصايفُها    مِنها    وَأَقوَت   رُبوعُها
بِكُرهِيَ   أَن   باتَت   خَلاءً   دِيارُها
وَوَحشاً    مَغانيها    وَشَتّى   جَميعُها
...
إِذا  اِفتَرَقوا  عَن   وَقعَةٍ    جَمَعَتهُمُو
لِأُخرى    دِماءٌ   ما   يُطَلُّ   نَجيعُها
تَذُمُّ   الفَتاةُ    الرودُ    شيمَةَ    بَعلِها
إِذا باتَ دونَ  الثَأرِ  وَهوَ   ضَجيعُها
حَمِيَّةُ     شَغبٍ    جاهِلِيٍّ     وَعِـزَّةٍ
كُلَيبِيَّةٍ    أَعيا    الرِجالَ   خُضوعُها
وَفُرسانُ  هَيجاءِ   تَجيشُ   صُدورُها
بِأَحقادِها   حَتّى    تَضيقَ    دُروعُها
تُقَتِّلُ    مِن   وِترٍ    أَعَزَّ    نُفوسِهــا
عَلَيها     بِأَيدٍ     ماتَكـادُ    تُطيعُهــا
إِذا  اِحتَرَبَت  يَوماً  فَفاضَت  دِماؤُها
تَذَكَّرَتِ   القُربى   فَفاضَت  دُموعُها

- وديوان البحترى ديوان ضخم يتكون من مجلدين كبيرين يحتويان على حوالى ألف صفحة، ويضمان مئات القصائد. شعر غزير رائع، يتدفق، رائقاً عذباً محكم السرد، حتى أنك لو أردت ابدال إحدى الكلمات بكلمة أخرى، لما أستطعت.
ــــــــــــــــــــــــــــــ

5- وفى روضة الشعر العذرى: شعر العشاق:     (1)
- وقد نشأت هذه المدرسة فى صدر الإسلام، وكان لنشأتها واستمرارها أسباب عديدة، حضارية وفكرية وثقافية، ومثلت تياراً جديداً فى الشعر العربى، سار فى ركابه عدد كبير من شعراء ذلك العصر، وامتدت آثارها إلى ما تلا ذلك من العصور.
ومن شعراء هذا التيار نقدم المقتطفات الآتية التى تتضح منها خصائص هذا التيار:
- من شعر جميل: وهو جميل بن معمر، المعروف بجميل بثينه، صاحبته.
- يقول فى وصفه لموكب الحجيج:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)   يذكرنى شعر العذريين، بشعر الشعراء الرومانسيين فى أوربا، سواء فى موضوعاته، أو فى أساليب عرضه لتلك الموضوعات.


و لما   قضينا  من  منىً  كل  حاجةٍ
و مسّح   بالأركانِ   من  هو  ماسحُ
و شُدّت على  حُدب  المطايا  رحالُنا
فلم  يعرف  الغادي  الذي  هو رائحُ
أخذنا   بأطراف   الأحاديث    بيننا
و سالت  بأعناق    المطيِّ   الأباطحُ

- ويقول فى بيان موقفه فى الحياة:
يَقولونَ   جاهِد   يا   جَميلُ   بِغَـزوَةٍ
وَأَيَّ     جِهادٍ     غَيرَهُنَّ     أُريــــدُ
لِكُلِّ    حَديثٍ     بَينَهُــــنَّ    بَشاشَـةٌ
وَكُلُّ      قَتيلٍ      عِندَهُنَّ      شَهيـدُ

- ويقول شارحاً حاله فى الحب:
خَليلَيَّ   إِن   قالَت    بُثَينَةُ   ما   لَهُ
أَتانا    بِــلا    وَعدٍ    فَقولا   لَها:   لَهــا
أَتى وَهوَ  مَشغولٌ  بعُظمِ  الَّذي  بِهِ
وَمَن  باتَ طولَ اللَيلِ يَرعى السُهى سَها
بُثَينَةُ  تُزري بِالغَزالَةِ  في  الضُحى
إِذا   بَرَزَت   لَم   تُبقِ    يَوماً   بِها   بَها

- ومن شعر كثير بن عبد الرحمن، المشهور بكثير عزة (محبوبته):
فَقُلتُ   لَها   يا   عَزَّ   كُلُّ    مُصيبَةٍ
إِذا   وُطِّنَت  يَومًا   لَها  النَفسُ  ذلَّتِ
فَإِن   تَكُنِ  العُتبى   فَأَهلًا   وَمَرحَبًا
وَحقَّت   لَها   العُتبَى    لَدينا   وَقَلَتِ
وَإِن   تَكُنِ   الأُخرى   فَإِنَ   وَراءَنا
منادِحُ   لو سارت بها  العيسَ   كَلَّتِ
كَأَنّي أُنادِي  صَخرَةً حِينَ  أَعرَضَت
مِن الصُمِّ  لو لاذت  بِها  الطيرُ زَلَّتِ
صَموتا،   فَما    تَلقاكَ   إِلَّا    بخيلَةً
فَمَن  مَلَّ  مِنها   ذَلِكِ  الوَصلَ   مَلَّتِ
...
يُكَلِّفُها   الغيرانُ    شَتمي   وَما   بِها
هَواني     وَلَكِن    لِلمَلِيكِ    اِستَذَلَّتِ
هَنيئًا    مَرِيئًا    غَيرَ   داءٍ    مُخامِرٍ
لِعَزَّةَ   مِن   أَعراضِنا   ما  اِستَحَلَّتِ
...
وإني    وتهيامي     بعزّةَ      بعدَما
تَخلّيت      عما      بيننا      وتخلَّتِ
لكالمرتجي   ظلَّ    الغمامة     كلَّما
تبوأ     منها     للمقيل     اضمحلّتِ

- ومن شعر ذى الرمة: غيلان بن عقبة العدوى التميمى صاحب "مى": وأحد أشهر الشعراء العشاق، الذين يسمون بالعذريين.
يقول:
ذُرى أُقحُوانِ  الرَملِ  هَزّت  فُروعَهُ
صَبا    طَلَّةٌ   بَينَ   الحُقوفِ   اليَتائِمِ
وَريحِ  الخُزامى  رَشَّها الطَلُّ بَعدَ ما
دَنا    اللَيلُ   حَتّى    مَسَّها   بِالقَوادِمِ
...
ويقول:
إِذا   غَيَّرَ  النَأيُ   المُحِبّينَ   لَم   يَكَد
رَسيسُ  الهَوى  مِن حُبِّ  مَيَّةَ  يَبرَحُ
فَلا  القُربُ  يُدني  مِن  هَواها  مَلالَةً
وَلا  حُبُّها   إِن  تَنزِحِ   الدَارُ   يَنزَحُ
إِذا خَطَرَت  مِن  ذِكرِ   مَيَّةَ   خَطرَةٌ
عَلى النَفسِ  كادَت في  فُؤَادِكَ تَجرَحُ

ويقول:
وقفتُ   على   ربعٍ     لميَّةَ     ناقتي
فَمَا   زِلْتُ   أَبْكِي   عِنْدَهُ   وأُخَاطِبُهْ
وَأُسْقِيهِ    حَتَّى    كَادَ     مِمَّا    أَبِثُّهُ
تُكلِّمُني       أحجارُهُ        وملاعبهْ

ويقول:
وَمِن  حاجَتي  لَولا   التَنائِي   وَرُبَّما
مَنَحتُ  الهَوى  مَن  لَيسَ  بِالمُتَقارِبِ
عَطابيلُ   بيضٌ   مِن  ربيعة   عامِرٍ
عذاب    الثَنايا   مُشرِفاتُ   الحَقائِبِ
يُقِظنَ  الحِمى  وَالرَملُ  مِنهُنَّ  مَربَعٌ
وَيَشرَبنَ    أَلبانَ   الهَجانَ   النَجائِبِ

ويقول:
إذا  غابَ  عنهنَّ  الغيورُ  وأشرقت
لنا الأرضُ  فى اليوم القصير المُباركِ
تَهلَلن     واستأنسن   حتى    كأنما
تَهَللَ    أبكارُ     الغمام     الضواحك

ويقول:
هوًى لكَ  لا  ينفكُّ  يدعُوك  ما  دعَا
حَماماً    بأجراعِ     العقيقِ   حمــامُ

ويقول:
هَوىً   تَذرِفُ   العَينانِ   مِنهُ   وإنَّما
هَوى  كُلِّ  نَفسٍ  حَيثُ   كَانَ  حَبيبُها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق