الفصل السابع: الشاعر كمال عبد الحليم



ثالثاً: كمال عبد الحليم، وهو ثالث الشعراء المظلومين فى عصرنا، وهو زميلى ورفيق صباى، وهو رفيق نضالى على مدى شطر كبير من حياتى،.
وعنه كإنسان أقول:  ولد كمال فى قرية كوم النور مركز ميت غمر مديرية الدقهلية لأسرة ريفية رقيقة الحال ولكنها مهتمة بتعليم ابنائها، وقد كان كمال تلميذا نابها فى دراسته الابتدائية والثانوية، وقد قضى معى فى مدرسة حلوان الثانوية بالقسم الداخلى، سنوات طويلة، ونال الشهادة التوجيهية من مدرسة شبرا الثانوية فى سنة 1944، ثم التحق بكلية الحقوق - جامعة القاهرة، وتخرج منها عام 1950.
- تفرغ كمال للعمل - كمحترف ثورى فى المنظمة الشيوعية الأكبر فى مصر، وهى الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى، كما تفرغ لكتابة الشعر، ولم يعرف العمل العادى بشكل حقيقى حتى مات.
- تعرض كمال - كشاعر ثورى، وكمحترف ثورى، للسجن والاعتقال، والتشرد، عدة مرات، وقضى فى ذلك - وفى السجون والمعتقلات، وملاجئ الهروب والاختفاء، الشطر الأطول من حياته.
- وعنه كشاعر:  أنه تعلق بالشعر منذ صباه الباكر، وبدأ فى كتابته منذ أن كان تلميذاً فى المدرسة الثانوية، ثم بدأ فى نشر أشعاره، وهو مازال طالباً فى كلية الحقوق بالصحف والمجلات اليسارية، كالفجر الجديد، والجماهير، والملايين، وأم درمان - وغيرها. وقد استقبل الناس، وخاصة جماهير اليسار أشعاره بحفاوة بالغة منذ بدأ فى نشرها فنال بذلك شهرة واسعة - كشاعر وطنى وثورى واعد.
وقد عانى فى أواخر حياته الكثير، نتيجة لسوء أحواله المعيشية، ولعزلته السياسية والاجتماعية إلخ.
نشر فى شبابه ديواناً اسمه إصرار، ثم بعد ذلك - فى أواخر حياته  وبعد أن تجاوز الثمانين من عمره - أصدر له المجلس الأعلى للثقافة فى سنة 2007 ديواناً بأعماله الشعرية الكاملة، وهو ديوان كبير، صدر بمقدمه كتبها الشاعر محمد الفيتورى.
- ويعتبر شعر كمال عبد الحليم - من أغزر وأحر الشعر الذى قرأه الناس فى أواسط القرن العشرين، فهو يتميز بالغزارة والبساطة والحرارة والتلقائية وذلك سواء فى شعره الثورى أو شعره الغرامى.
وديوان كمال موجود ومتاح، ولكننا نكتفى هنا للتعريف به، بايراد بعض قصائده، أو بمقطوعات منها.
- فى الشعر الثورى: 
يقول كمال عبد الحليم فى قصيدة عنوانها "نحن فى السجن"، كتبها وهو سجين بسجن الاستئناف فى سنة 1947 وهو فى الحادية والعشرين من العمر، إذ كان ممن قبض عليهم فى حملة صدقى الشهيرة:

نحـن  فى  السجـن  وللسجـن  ظـــلامُ  وغيـــومْ
وعلى الأوجـه فى السجــن  تهاويــل  الوجــــوم
أيهـــا  العالـــم  هل  أنــت  بعيـــــد  أم  قريـــبْ
هـذه  الجــدران  تدعـــوك  -  ولكـن  لا  تجيــب
نحن  فى السجن  وتحت  الشمس  أنصار الظـلام
هم  أرادوا  أن  يظـل  الشعـب  عبـداً  يستضــام
وأردنــا  أن  يعيـش  الشعـب  حُــراً  لا  يضـــام
ولهــذا    فلنــا   السجـن   جــزاء   وانتقــــــام
ولهــم  تنصـب   رايـات   واعـــراس   تقـــــــام
أيها  الشعب  تمرد .. أفلا  تُبصر  قبــــــركْ
ها هو الخنجر فى قبضة  من  مزق  صـدرك
موكب  الأحـرار  أنصـارك  للسجن  تحـرك
فتحــرك  أنت يا  شعـب  لكى  تهــدم  قبـرك

- ويقول فى قصيدة اسمها "هجرة":

تحت هذى  السماء   جبن  وفقــــرُ
فتعالــــوا    إلى   بــــلادٍ   بعيـــــــدة
حيث تحت  السماء  قــــوم  أرادوا
ثم   دانت   لهــم    حيــاة   سعيــــــدة
...
يا رفاقى  جوانب  الكهف  ضاقـت
ورمت   بالألــوف  إثر  الألـــــــوفِ
من شيوخٍ  على  الطريق  عرايـــا
ونساءٍ  يسرْن  طـوع   الصــــــروف
وصغـارٍ   عماد   جيـلٍ   جديــــــدٍ
ذابلى العود -  فى انطواء الطيــــوف
يا رفاقى أرى ضِياع   لصــــوصٍ
وشئون  القضـاء   ملك  الضيـــــوف
إن  حز   القيود  أدمى  الأيـــــادى
وصـراع  القيــود   دأب  العيــــــوف
...
يا  رفاقى  ولست  أعنى   معافـى
فى  بلاد  بها  المــلايين  مرضــــــى
أدخلونا  السجون كُرهاً -  وعاثوا
ينشرون  الفســاد  طولاً  وعرضـــــا
بعضُ  هذا  الشقـاء  عـارُ  علينــا
كيف  طعم  الحيــاة  تُفرض  فرضـــا
كيف  نشقى  وفى  البلاد  كنوزٌ -
هل  زهدنا  الثــراء  مالاً  وأرضـــــا
ليس جوع  الجياع  صومـاً  ولكن
كل من جــاع  مثل  من  باع عرضــا
...
يا  رفاقى  وفى  العيـون  دمـــوعُ
ذلك   الدمــــع   لـو  يَصيرُ   دمـــــاءَ
إن لون الدماء  أشرف  للأحرار-
إن  عُذبـــــوا    فرامــــوا   الـــــدواء
هذه  العين  كم  رأت   مخزيــاتٍ
فى  قصورٍ -  وفى  كهوفٍ  شقـــــاء
كلما  ساءلت  عن  السِـرّ   تبغــى
أن ترى  النور  جرّعوها الرضـــــاء
يا رفاقى  وقد  سئمت  الرضــــــاء
لست  أقــوى  على  الشقـــاء  بقـــــاء
...
يا رفاق  الشقاء  هل  من  مريـــــد
لنـــــزوح   إلى   بـــــــــلادٍ   بعيـــدة
حيث تحت السماء قوتُ وستـــــر-
وحيــاة   يقــــــــال   عنهـا   سعيـــدة
بل تعالوا نُحطم  الصنم  العاتـــــى
ونبنـى   هنا   الحيــــــــاة   الجديـــدة

- وفى ديوان كمال العشرات من القصائد الثورية، التى تدور حول نفس هذا المحور، وإن بصيغ وأشكال متنوعة. وموضوعها هو الظلم والاحتجاج والثورة عليه. ولكن فيه الكثير من الشعر الإنسانى والعاطفى والفلسفى الرائق المبدع.
- وإلى جانب هذا العبوس والتجهم الثورى، هناك فى شعر كمال تيار آخر، تيار كبير يفيض بالرقة والعذوبة والنضاره، وهو تيار شعره العاطفى الغرامى. ذلك الشعر الذى صاحب شبابه والذى كان موجهاً إلى فنانه شابة موهوبة. هى الفنانة المغنية فايدة كامل، ثم بعد ذلك إلى فنانة موسيقية ثورية هى ميمى كانيل التى تسمت بعد ذلك بأسم "ماجدة" ثم تزوجها وعاش معها زمناً قصيراً، ثم دخلت السجن وقضت فيه خمسة أعوام، ثم نفيت خارج البلاد بعد الافراج عنها، وذهبت إلى البرازيل وعاشت بها، ولم يرها هو بعد ذلك أبداً.
- يقول لمحبوبته فايدة كامل:

جمعتنـــا   قداسـة    الفــن   لكـــــن
فرقتنـــــا    طبيعــة     الانســــــان
أنـت   فنانُــة    فكيــف    تُرائيـــــن
وتغضيـــــن   عن  هــوى   فنــــان
انمــا   الفـن   فـورةُ    وانطــــــلاقٌ
وخـــروجٌ   من  عالــم  الكتمــــــان
فى   أغانيك  ما  يجيـشُ  بِشعــــرى
ويثيـر  الحيـــاة   فى   وجدانـــــــى
مثل  هذا  الغناءِ  لم  يسمع   الكــون
ولــم    تنفــرجْ    بـه     شفتـــــــان
حين أُصغى إليك  أصغى  لصـــوتٍ
من  كيانــى  يهزنى  من  كيانــــــى
حين  أصغى  إليـك   يهتـف  قلبـــى
وهـو  نشــــوانُ:   هـذه  ألحانــــــى
إن  شِعـــرى   قبستـُه   منـــــك   لا
أدرى  لمــاذا  يفيض  عبر لسانــــى
أنت  إن  شئت  سال  عذبا   رقيقـــا
وإذا   شئــت   ثــار  كالبركــــــــان
وإذا   شئت  فار  كالنبع،  كالنـــــور
رفيقـــــــاً  فى  راقــــــص  الأوزان
وإذا  شئـت  لم   يفـض  وتـــــوارى
عن  حياتــــى  ولاذ  بالعصيـــــــان
أنت  لحنـى  فكيف  أُحـرم   لحنــى
كيف  أحيـــــا  فى  عالم  الحرمــان
...
ذلك الحُب  ضج  من  وحشة  القيــد
أمـا   من   هــوى   بـلا   جــــدران
انما  الحب منبع  النور  فى  الكــون
ووحــى   الشعــــــــور   والإيمـــان
كـــم   جنــاحٍ   محطــم   يَسبـــــــق
الريـح  إذا  لاذ  بالجنــــــاح  الثانـى
روعةُ  الحُب  أن  يطير  جناحـــــاه
وأن   يهبطــــــــا   بكـل   مكـــــان
يجهـلان  القيــود  -  كل  جنـــــــاحٍ
يتناسى  الحــدود  فى  الطيــــــران
يتناسى  أن  السمــــاء  مع  الأرضِ
مع  الكـــــونِ  هيكل  القضبـــــــان
...
لسـتِ  تدريـن  أن  للفــن  روحـــــاً
ليس  يسمو  بها  سوى  فنــــــــــان
لسـتِ  تدريـن  أننا  حين  نهــــــوى
نعبــدُ  الله  فى  دم  الشيطــــــــــان
تنزع  الروح  نحو  روح  ولكــــــن
يعبـر  الحب  عالــم  الأبــــــــــدان
فتعالــى   إلىّ   جسمـــاً   لجســــــمٍ
انمـا  الجســم  آله  الروحانـــــــــى
وتعالــى  إلى  روحــاً   لـــــــروحٍ
ينسكب  نورنا  على  الأكــــــــوان
لسـت  تدرين  أننـا  يــــوم   جئنـــا
قد  لبسنا  الجسوم   والجسم   فانـــى
والحكيمُ الحكيم من  يُجهد  العمـــر
ويجـرى  الحيــاة   بين  الثوانـــــــى
انما  الكــون  يُشبه  السجـــــن  فى
الضيق،  فأين  الفضاء   للسجـــــان
فتعالى إلىّ  قد  ضــاع  ما  ضــاع
وعاش  الهـــوى  برغم  الزمــــــان
وغدى  قد  يضيـع  ضيعة  أمســى
ويســـــوق   الغــــــرام   للنسيــــان

- ويقول لمحبوبته وزوجته ماجده، فى قصيدته التى سماها "عيد ميلاد":

ما  حياتــى  إن   أنا   ضيعتهــــــا
دون   أن   أبنــى   بنـــــاءً   للغــــــدِ
أنا  إن  عشت   وشعبى   مُرهَــــق
مُستغَــل   ثم   لم   أمـــدد   يــــــــدى
لصــراع   الظالـــم    المستعبـــــد
وصـراع   المستغــــل   المعتـــــــدى
فأنــا    لســت    بانســـــان    لـــه
عيـــد ميـــــــلاد  -  أنــا  لم  أولَــــــدِ
...
عيد   ميــلادى   الـذى   أذكُــــــره
يــوم   كافحــتُ   وأحببتُ   الكفــــاح
وتمُـشـت   فى   دمائــى  ثــــــورةُ
تنسِــف   الظلــم   فتـذروه  الريـــــاح
وتحسســـتُ    جراحــى    وأنـــــا
فى   قيـودى  -  فتحملت   الجـــــراح
...
ومضــى  عـــامٌ   وعــامٌ    وأنــــا
كُلمــا    أكبــــــرُ    أزداد    صِبــــــا
كل   يـــوم   ينقضـى   يملؤنــــــى
بشبــــــاب     يتغنــى     صاخبـــــــا
كل  يـــوم   مقبل   يحمـل   لــــــى
أمـــلاً    حــراً   حبيبــا    مرعبــــــا
...
والتقينــا   بالمصيـــــف   لحظــــةُ
وبصــدرى   ما بنيـران   المصيـــفْ
وبقلبــى   ثـــــــــــورة   مكبوتــــة
كانكسار  المـوج  عن  صخرٍ  مُخيف
وبعينــى    يقظـــــــةُ     حائـــــرةُ
وبريـق   لتـــرى   الشــر   المُطيــف
وبعينـــــى    رغبــــة   منهومــــةُ
لتـــراك،     لتــــــراكِ،     لتـــــراكْ
وتــرى  المـوج   رذاذاً   ثائــــــراً
يتعالـى  ثم  يهـــــوى  فى  ارتبـــــاك
وحديـــثُ    ثائـــر     مندفــــــــعُ
لـــم  تكن  تخشـــى  لظـــاه  شفتـــاك
لحظةً مرت وعاشت  واحتــــــوى
مِعصمــى  القيــــد  وأدمــاه  الحديـــد
ومضـى  عام  وعينى  تشتهـــــــى
أن  تــــراك،  والتقينــــا  من  جديـــد
فى  حديــثٍ   ثائـــرٍ   مندفـــــــــع
فى  كفـــــاح  مـــاردٍ  مـــــر  عنيـــد
وكلانــــــا     قصــة     جبــــــارة
وكلانــــا  حائـــرُ  الخَطــــو  طريـــد
فصهرنــا  فى  الكفـــاح  حبنـــــــا
لهـــــب  أنـــــت  -  ونيـــــران  أنـــا
فتنــةُ  أنـت،   ولــولا   ثـــــــــورةُ
جمعتنــــا  -  ما  عشِقنــــا  بعضنـــــا
وكمـــانٍ    عبقـــرى    ثائـــــــــرٍ
قــــــد   حملتيــه   وغنيـــت   لنـــــــا
وبأذنــى    نَغمــــةُ    لا  تنتهـــــى
لارتطام  المـــوج  بالصخر  هنــــاك
فقتلنــــا  الرعــــب  فى  وحدتنــــا
وأقمنـــــا    فى    تحــــدٍ    عُشنــــــا
وصحونـــــا   فوجدنــــا   حولنــــا
قفصـــاً   لا   تشتهيـــه   الأعيــــــــنُ
قفـــصُ   قامـــــت   عليـه    فئـــةُ
حسبــــوا    أنــا    ضعــاف  نجبــــنُ
هـذه  الجــــدران   لـــن   تخنقنــــا
فالملاييـــــن   قـــــوى   لا   تُسجـــن
الملاييــــــن   أفاقــــــت   يا لهــــم
حينمــــا   تخنــقُ   من  لا  يذعــــــنُ

- ديوان كمال عبد الحليم لا يحتوى فقط على هذه القصائد الرائعة فى الثورية والمقاومة والنضال، ولا على هذه القصائد العذبة فى الحب والغرام، إنه يحتوى على الكثير من هذه وتلك، ولكنه يحتوى أيضاً على عشرات من القصائد المختلفة فى غير ذلك من الموضوعات والأغراض، المألوفة وغير المألوفة، فإبداع كمال كان حراً طليقاً لا يقيده قيد، لا فى شكله ولا فى موضوعه.
- وآخر ما نتطرق إليه من ذلك، هو شعره الوطنى، فقد أبدع كمال الكثير من هذا الشعر، وكان شعره الوطنى حاضراً فى مختلف المناسبات الوطنية، مما أهّل هذا الشعر لأن يكون من أقوى وأجمل ما يغنى فى المناسبات الوطنية.
من ذلك أُغنيته الشهيره: دع سمائى، التى غنتها المطربة فايدة كامل (أيضاً)، عند وقوع العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، والتى أصبحت على كل لسان، وكانت من أقوى أسلحة ردع هذا العدوان.
تقول كلمات هذه القصيدة:

دَع  سمائـى  ..  فسمائــى  مُحرقــه
دع  قنالــى  ..  فمياهــى   مُغرقــه
واحذر  الأرض  فأرضى  صاعقـة
هذه  أرضـى أنـــــا         وأبى  مات  هنـــا
وأبى   قــال    لنـا         مزقـوا   اعداءنــــا
...
أنــا   شعــب   وفدائــى   وثــورة
ودم   يصنــع   للإنســان   فجــره
لن  ترانى   نازفاً   آخــر   قطــره
وستبقى  مصر حرة .. مصر حرة

هناك تعليق واحد:

  1. هل قصيدة رقصة الحرب لـكمال عبد الحليم؟

    ردحذف