13- الفصل الثانى عشر: نظرات فى الشعر العربى

على ضوء الدراسة الجادة للنماذج السابق إيرادها من الشعر العربى فى عهود ازدهاره، فإننا نخرج بعدة ملاحظات جوهرية، ونظرات أساسية على هذا الشعر.
أولا: عن وظيفة الشعر العربى ومدى فضله على الأمة العربية:
- للشعر العربى أربعة وظائف، تتمثل فى الأفضال الآتية:
  1- فضله فى الحفاظ على اللغة العربية، والإبقاء عليها حية مزدهرة حتى اليوم، فى حين اندثرت وأختفت لغات عديدة أخرى، كانت معاصرة ومجاورة لها(1)، ولا شك أن الشعر العربى، والقرآن الكريم، كانا هما طوق النجاة والحياة لهذه اللغة.
  2- فضله فى الحفاظ على القيم والفضائل والمثل العليا العربية من الضياع والإندثار. ففى التراث الباهر للشعر العربى، قدر وافر من الشعر الذى يرفع من قدر الفضائل التى تتحلى بها الأمة العربية، وخاصة فى شعر المديح والرثاء. ومنها فضائل الشجاعة والكرم، والوفاء، والنجدة، والكبرياء، والنبل.. إلخ. والأمثله على ذلك لا تُعد ولا تُحصى.
- ويقول أبو تمام فى ذلك:
ولولا  خِلالُ   سنّها   الشعر   مادرى
بناة   العُلا   من  أين  تؤتى   المكَارم

وأقول أنا:  (2)
خلَعْتَ   عليه    النُبْلَ    لفظاً   وغايةً
فصار  له  فى  النبل   شَرْعٌ  ومَذهَب
إذا  الشعر  لم  يُحْىِّ  المكارمَ  والعُلا
فلا  خيرَ  فيه  حين   يُروَى  ويُكتب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كما للغات الفارسية، والعبرية، والسريانية، وغيرها.
(2) على الشعر – من قصيدتى فى رثاء الشرقاوى.



- ويقول السموئل - فى امتداح فضيلة الشهامة والنجدة:

تُعَيِّرُنــا     أَنّـا     قَليــلٌ     عَديدُنــا
فَقُلتُ    لَها     إِنَّ     الكِرامَ     قَليــلُ
وَما   ضَرَّنا    أَنّا   قَليلٌ    وَجارُنــا
عزيزٌ     وَجارُ    الأَكثَرينَ       ذَليلُ

3- الشعر العربى هو ديوان العرب، لأنه سجل تاريخهم وحضارتهم، وهو بهذا يصون هذا التاريخ وتلك الحضارة، من الضياع والأندثار.
4- والشعر العربى هو بستان العرب، لأنه يلعب دوراً كبيراً فى حياتهم الفكرية والفنية، وهو معين زاخر بما يشبع حاجتهم للاستمتاع بالفن والجمال، وما يترتب على ذلك من إسعاد ذهنى وعاطفى ونفسى.
ثانياً: عن طبيعة الشعر العربى، وتعدد التيارات الداخلة فيه:
والشعر العربى نَهرُ كبير زاخر، ولذلك فهو غنى بالمناهل والروافد والاتجاهات الفنية التى تغذيه وترفده، ومن هذه الاتجاهات والروافد وتفاعلها وتداخلها عظمة هذا النهر وقوته، وقد تحدث النقاد القدامى عن تلك الظاهرة وقدموا اجتهاداتهم فى بيانها. أما أنا، فقد توصلت من خلال دراستى للشعر العربى، إلى أن تياره الرئيسى تتجاور فيه وتتفاعل عدة تيارات واتجاهات، أهمها:
الاتجاه الإنسانى: وهو الاتجاه الذى يمثله أبو العلاء المعرى، وهو يتسم بغلبة النزعة الفلسفية والوجودية على اختياره لموضوعاته، وعلى كيفية معالجتها. (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بالإنجليزية: Humanitarian trend




- الأتجاه العقلانى:الذى يمثله المتنبى، وهو يقوم على غلبة النزعة(1) العقلانية على مضمون الشعر، وعلى طريقة معالجة موضوعاته، وينعكس ذلك بالطبع على أسلوبه، الذى يتسم بالمباشرة والتقريرية، وروح الكبرياء والاستعلاء.
3- الأتجاه الوجدانى: والذى يمثله أبو تمام، والذى يعتمد على الأستعانة(2) بالتأثيرات الوجدانية والعاطفية فى اختيار موضوعات الشعر وطريقة المعالجة، وما تحدثه هذه التأثيرات من تغيرات فى أسلوب المعالجة، والبعد عن التقريرية والجفاف، والأتجاه إلى السهولة والليونة، وإلى الغنائية فى طرق التعبير، وأميل أنا إلى تسمية هذا التيار أيضاً بالأتجاه الطبيعى، لأنه يقوم على الجمع بين المقومات(3) العقلية والعاطفية وهو الأمر الطبيعى فى الشعر.
4-المذهب الفنى، الذى يمثله البحترى، ومن حذا حذوه من الشعراء(4) - والذى يعتمد على البعد - بدرجة أكبر عن الطابع العقلانى، والأنغماس أكثر وأكثر فى خصائص المذهب الوجدانى، والأسلوب الفنى فى معالجة الموضوعات، وطريقة التعبير، كما يعتمد على مزيد من السهولة والسلاسة فى أسلوب العرض.
المذهب العذرى:     PLAtonic trend
والذى يمثله عدد من الشعراء العشاق: جميل بثينة، وكثير عزة، وذو الرمة، والذى يتميز بنزعة تجريدية، وبتوهج المشاعر، وبجمال الأسلوب، شأنة فى ذلك شأن الأتجاه الرومانسى فى الشعر الأوروبى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الترجمة      Rationalistic trend
(2) الترجمة      Sentimental trend          
(3) تشبيها له بالمدرسة الطبيعية فى فن التصوير، التى يمثلها سيزان وزملاؤه.
(4) الأتجاه الفنى



2- تلك هى المذاهب أو التيارات الرئيسية التى تتداخل فى بناء الشعر العربى، والتى يختلف تأثيرها فى بنية نسيجه، بأختلاف نسبة دخولها فى هذا النسيج.
- وغنى عن الذكر، أن تعدد هذه التيارات فى نسيج الشعر العربى، هو أختلاف فى موضوع هذا الشعر، وفى طريقة الأداء، أما الخصائص الشكليه لهذا الشعر، كالوزن والقافية والموسيقية، فهى خصائص عامة تشترك فيها كل التيارات.
3- عن رأى أبى العلاء المعرى. فى شعراء عصره:
 يقول المعرى فى المقارنة بين الشعراء الأكبر والأشهر فى عصره:
- المتنبى وأبو تمام حَكيمان، والشاعر البحترى، فما مدى صحة هذه المقولة التى قالها شاعرنا الفيلسوف؟
- فى رأيى أن المعرى قد أصاب فى مقولته هذه، ولكنه قد أخطأ فيها أيضاً.
- أصاب المعرى من حيث أنه قد لمس الحقيقة الماثلة - فى كثرة شعر الحكمة فى أشعار الشاعرين الكبيرين، مما جعل شعرهما حافلاً بهذه الحكم، ومشهوراً بها، بينما يكاد شعر البحترى يخلو منها، وينصرف بكليته الى الشعر العاطفى والوجدانى، ومن ثم إلى الليونة والسلاسة التى يقتضيها هذا الشعر، والتى يتحقق له منها مزيد من الطابع الفنى والشاعرى.
- وأخطأ المعرى فى مقولته من حيث أنها تتسم بالتعميم والمبالغة فى حكمه الذى أصدره على الشعراء الثلاثة الكبار.
فقوله إن المتنبى وأبو تمام حكيمان، قد يفهم منه أنه ينفى عنهما أنهما شاعران، وقوله إن الشاعر البحترى، قد يفهم منه أنه هو وحده الشاعر، وأنه ليس حكيماً هو الآخر.
- وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق، ذلك أن شعر المتنبى وأبى تمام حافل أيضاً بالشاعرية والوجدانية، كما هو حافل بآثار النزعة العقلانية والفكرية، التى هى من سمات المذهب العقلانى، ولا يصح أن يقال إنه شاعر فقط، ولا صلة له بالحكمة.
واعتقادى أنا أن أبا العلاء لم يكن جاداً تماماً فى هذه المقولة بل كان يقصد بهذه المبالغة، شيئاً من المزاح مع الشاعرين الكبيرين. وذلك على طريقة المكفوفين اللاذعة فى المزاح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق