الفصل الأول: الشعر بصفة عامه، والشعر العربى بصفة خاصة



يقول أبو تمام:

ولولا  خِلال   سَنّها  الشعر   مـــادرى
بناةُ  العُلا.. من أين  تؤَتى  المكارمُ

وأقول أنا: (1)
تبوأتَ  عَرشَ  الشِعـرِ  فارتّد   للصِبا
فأنتَ  أميرُ  الشِعـرِ،  والأُمُّ،  والأبُ
حَـدَائقَ  من  وَرْدِ  الكـلام   غَرَسْتهــا
تفيـضُ  على  الدنيا   عبيراً  وتسكب
خلَعْـتَ  عليـه  النُبْــلَ   لفظــاً  وغايـةً
فصار  له  فى  النُبل  شَرْعٌ  ومَذهَب
إذا  الشِعر لم  يُحىِّ  المروءةَ  والندى
فــلا  خيرَ  فيه  حين  يُروَى  ويُكتب
_____________________________________________
(1)   من قصيدة "الشمس الغاربة" فى رثاء الشاعر عبد الرحمن الشرقاوى (ديوان قصائد فى الحب والحزن).


- الشعر بصفة عامه، والشعر العربى بصفة خاصة، هو من الفنون الجميلة، بل هو أهم وأقوى وأكمل وأجمل الفنون الجميلة، لأنه وهو فن من فنون القول - الكلام - يحتوى على عناصر شتى من عناصر الفنون الأخرى، كالتصوير، والموسيقى، والتمثيل.. إلخ. وهو يحتوى عليها لا بشكلها المادى، ولكن بشكلها التجريدى، والشاعر كثيراً ما يورد فى شعره صوراً - لفظية - للكثير من الأشياء، فيراها القارئ بعين خياله، وكأنها صور واقعية، يقول المتنبى:

فَسِرتُ  وَقَد  حَجَبنَ  الشمــسَ  عَنّـى
وَجِئنَ   مِنَ  الضِيـــاءِ  بِما   كَفانـــي
وَأَلقى  الشَـرقُ  مِنهـا  في   ثِيابــــي
دَنانيـــراً    تَفِــــــرُّ   مِنَ   البَنـــــانِ
لَها   ثَمَــــرٌ   تُشــيرُ   إِلَيـــــكَ   مِنهُ
بِأَشرِبَـةٍ    وَقَفــــنَ   بِــلا   أَوانــــي
وَأَمـواهٌ   يَصِـــــلُّ   بِهـا   حَصَــــاهُ
صَليلَ   الحَليِ  في  أَيدي  الغَوانـــي


فهذه الدنانير التى تفر من البنان، وهى بقع الضوء التى تتسلل إليه من خلال أوراق الشجر، وهذه الثمار التى هى أشربةُ وقفن بلا أوانى، التى يراها القارئ أو السامع، ما هى إلا أشياء يراها بعين خياله، كأنه يرى لوحات تصويرية حقيقية، وهذا الصليل الذى تصنعه المياه الجارية على الحصى، وكأنه صليل الحُلِّى فى أيدى الغوانى، أنما هو صوت خيالى يجسده الشاعر ليسمعه القارئ أو السامع، وكأنه صوت حقيقى يأتى إليه من الطبيعة ذاتها، وهذه قدرة الشعر على التصوير.
وهكذا، فإن فى كل من القصائد، أو بيتٍ من الشعر، أو فى أغلبها نجد هذه الظاهرة، صورة متخيلة موصوفة، أو أصوات متخيلة موصوفة.
- والشعر يشتمل على الأفكار والتماعات الذهن، وعلى الوقائع والحكم والأمثال، وفى نفس الوقت، فهو يشتمل على بيانٍ لنزعات العاطفة والوجدان، وينقل الإحساس بها من الشاعر إلى القارئ أو السامع، بحيث يحس بها وكأنها تحدث له هو.
- والشعر يُغلّف كل هذه الأفكار، والصور، والأحاسيس، بغلاف شفاف من الموسيقى، موسيقى ظاهرية ناتجة عن الوزن والقافية، أو موسيقى داخلية تتصاعد بطريقة غامضة من التراكيب الداخلية للأبيات، ومن معانى الكلام، لا من الآلات الموسيقية، الوترية أو النحاسية.
- وقد انخرطت أمم كثيرة - إن لم تكن كل الأمم، فى إنشاء الشعر وقوله، أو فى كتابته وتدوينه - وبلغت كل منها فى ذلك شأواً قريباً أو بعيداً، الأمة الإغريقية، انتجت شعراً غزيراً وجميلاً، تمثل فى الياذة هوميروس، وفى المسرحيات التراجيدية والكوميدية التى كتبها الشعراء الإغريق وقدموها على المسارح، والأمة الرومانية أنتجت شعراً رائعاً أدهش الدنيا، والأمة الانجليزية التى أنتجت شعراً رائعاً، كما تمثل فى روائع شكسبير المسرحية والغنائية، وفى أشعار الرومانسيين وشعراء البحيرات، بايرون وشيلى ووردزورث وكوليردج، وغيرهم. والأمة الفرنسية كما تمثل فى أشعار هيجو ولا مرتين وراسين وموليير، وبودلير، وغيرهم. والأمة الألمانيه كما تمثل فى أشعار جوته وهاينى وغيرهم. والأمة الروسية كما تمثل فى أشعار بوشكين ومايكوفسكى وليرمنتوف وتورجيينيف وغيرهم. والأمة الهندية، كما تمثل فى أشعار طاغور، واقبال وغيرهم. والأمة الفارسيه كما تمثل فى أشعار الفردوسى والخيام والسعدى والشيرازى، وغيرهم.
ولكن كل ذلك شئ، والشعر العربى شئ آخر، الشعر العربى هو الأهم والأبقى والأقوى والأجمل فى الدنيا بأسرها، هو الأهم لأنه كان ومايزال يمثل ركناً أساسياً من أركان الوجود العربى، والتراث الفكرى والثقافى والفنى والروحى والحياتى للأمة العربية، وهو سجل تاريخها وحياتها، وتقاليدها، وفضائلها، ومثلها العليا، وفوق ذلك، فهو المصدر الأول لإشباع حاجتها إلى المتاع الروحى والوجدانى.
- وإذا صح أن يقال إن الشعر هو "ديوان العرب" فإنى أقول: والشعر أيضاً هو "بستان العرب" - لأنه المجال الأول لراحتها ومتاعها الفنى والفكرى".
- فلماذا أصبح للشعر العربى كل هذا القدر من التميز على أشعار الأمم الأخرى؟
يرجع ذلك إلى عدة خصائص تتوافر لهذا الشعر، كما لا تتوافر لأى شعر آخر، منها:
- خصائص للشعر العربى ذاته، تتمثل فى أنه يقوم على دعائم فكرية، كما يتمثل فى التيار الإنسانى والتيار العقلانى - كشعر المعرى والمتنبى وغيرهما، وعلى دعائم عاطفية ووجدانية كما يتمثل فى شعر أبى تمام والبحترى والعذريين، وهو بهذا يخاطب العقل والوجدان فى آن واحد.
- والشعر العربى يعتمد على دعامة أخرى أساسية، وهى دعامة فنية، هى موسيقية هذا الشعر، وتتمثل فى انفراد الشعر العربى بظاهرة الوزن والقافية اللتان تتأتى بهما الموسيقى الظاهرة للشعر العربى - والمعروف أن الشعر العربى هو كلام موزون مقفى، وفى الموسيقى الداخلية لهذا الشعر التى تتأنى من التراكيب الداخلية للأبيات، ومن الأفكار والمشاعر التى ترد فيها.
- وخصوصية الشعر العربى تأتى من خصوصية اللغة العربية، وما تتسم به من ثراء، ومن غزارة وخصوبة، ومن مرونة وليونة، تجعلها سهلة التشكيل عند الشاعر المقتدر، وفقاً لمقتضيات المعنى، ومقتضيات الموسيقى.
- وخصوصية الشعر العربى، تأتى من خصوصية البيئة العربية، وهى بيئة سهلة منبسطة، تتفق مع متطلبات الجو الشاعرى الملائم.
- وخصوصية الشعر العربى، تأتى من خصوصية الشاعر العربى، والانسان العربى، ومن تمتع كل منهما بسعة الخيال والنزعة المثالية، التى يقتضيها الشعر، وبمثاليته، وتطلعه الى الكمال.
- إن الشعر العربى هو نبت طبيعى نشأ فى أحضان الأرض العربية، الأرض الفسيحة الرحبة، فى الجزيرة العربية وما جاورها من الأقطار، وهى ساحة مهيأة لاستقبال وتنمية هذا النبت الوليد، وكما أن النباتات وأنواع الفاكهة والزهور، ينمو كل منها ويجود فى أرض بعينها، فكذلك الشعر وغيره من الفنون، لكل منها خصائص تجعله يجود فى أرض بعينها، وخصائص الشعر العربى تجعل من الأرض العربية، والبيئة العربية، أفضل أرض، وأفضل بيئة لنشأة وازدهار هذا الشعر.
- وقد استقبلت الأرض العربية، والبيئة العربية، والانسان العربى، هذا الوليد - الشعر العربى - بكل ترحيب، وأولته كل اهتمامها، فوفرت له فرصاً للنمو والأزدهار، منها أنها أنشئت سوقاً للشعر العربى، هى سوق عكاظ الذى كان يجتمع فيه الشعراء، لعرض بضاعتهم من الشعر، كما يجتمع فيه محبو الشعر لسماعه، ومنها أنها وضعت نظاماً لأختيار أفضل القصائد، وكتابتها، وتعليقها على أستار الكعبة تكريماً لها.
كما اشتغل كثيرون باشغال تتصل بالشعر من مختلف جوانبه، اشتغل كثير من الشعراء بالتكسب بالشعر، عن طريق المدائح التى كانوا ينشئونها ويتكسبون منها، وعن طريق رواة الشعر الذين كانوا يعيشون من حفظ الشعر وروايته، وعن طريق نساخ الشعر وبائعيه، وعن طريق المغنين بالشعر.
وقد اتجه كثير من المستشرقين والعلماء والكتاب فى الغرب إلى دراسة الشعر العربى، وكان أكثرهم ممن أعجبوا وانبهروا به، ومن أعظم هؤلاء، الشاعر الألمانى العظيم، يوهان جوته - كبير الشعراء والكتاب الألمان فى عصره، والذى ترك ديواناً ضخماً باشعاره، كما ترك روايات ومسرحيات عديدة وشهيرة، منها آلام ڨيرتر، وفاوست، وغيرها من المؤلفات.
والمعروف أن جوته، قد انبهر بعظمة وجمال الشعر العربى، وأنه تعلم اللغة العربية واطلع على كثير من الأشعار والملاحم العربية، وتأثر بعدد من الشعراء العرب، مثل المتنبى، وأبى تمام، والمعلقات، وقام بترجمة العديد منها إلى اللغة الألمانية، كما أنه قرأ لفحول الشعراء العرب مثل امرئ القيس، وطرفه بن العبد، وعنتره بن شداد، وزهير بن أبى سلمى، وقد استعان بشعر المتنبى فى روايته "فاوست"، وقال عن اللغة العربية:
" ربما لم يحدث فى أى لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط، مثلما حدث فى اللغة العربية، وأن هناك تناسق غريب بينها فى ظل جسدٍ واحد".
وقال جوته، إن الشعر العربى هو أقوى وأجود وأجمل شعر فى العالم.
وقال: إن العرب أمة شاعرة، وأن كل العرب يولدون شعراء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق