الفصل التاسع: عندما مات شهدى عطية



- عن شهدى عطية: (1)
- كان شهدى عطية من أبرز القادة الشيوعيين فى منتصف القرن العشرين، إذ كان عضواً قيادياً فى منظمة إسكرا، ثم فى منظمة الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى - الشيوعيتين.
- وكان له دور بارز فى نشاط هاتين المنظمتين، كان هو منشئ ومدير النادى الثقافى اليسارى المسمى – دار الأبحاث العلمية، بشارع نوبار بالقاهرة، والذى لعب دوراً تنويريا عظيما فى منتصف الأربعينات من القرن العشرين، كما كان رئيساً لتحرير مجلة الجماهير اليسارية، وكاتبا لامعاً فيها، ومؤلفاً لكتاب مهم هو: تاريخ الحركة الوطنية فى مصر.
- وكان شهدى شخصاً مهيب الطلعة، فارع الطول، قوى الجسد، فاحم الشعر، فصيح اللسان، ودوداً، لطيف المعشر.
- وكان أول شيوعى يحكم عليه بالأشغال الشاقة، إذ حوكم فى سنة 1948، أمام محكمة عسكرية، متهما بتأسيس وادارة منظمة حدتو الشيوعيه، وكانت المحاكمة وفقاً لقانون صدقى الشهير، وصدر الحكم عليه فيها بالأشغال الشاقه لمدة سبع سنوات، أمضاها كلها فى غرفة التأديب بليمان طره المخصص لكبار المجرمين من القتلة وقطاع الطرق، مكبلاً بالحديد من يديه ورجليه، وملزماً بالعمل الشاق يومياً فى تقطيع ونقل الأحجار فى جبل طره.
وكان قد أفرج عنه بعد قضاء المدة كاملة بعد قيام ثورة يوليو - فى عام 1954، ثم قبض عليه فى حملة القبض الواسعة، التى وقعت على مئات من الشيوعيين، فى ليلة رأس السنة، عام 1958. حيث اتهم بتأسيس وإدارة الحزب الشيوعى الجديد الذى كان قد تأسس فى عام 1958، وقدم للمحاكمة - للمرة الثانية - مع كثير من أعضاء ذلك الحزب وقادته، أمام محكمة عسكرية يرأسها الفريق هلال محمد عبدالله هلال، بذات التهمة - تأسيس وقيادة تنظيم شيوعى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)   هذه الحكاية - حكاية موت شهدى عطية. مذكورة بالتفصيل فى كتاب: أيام أخرى، الجزء الثانى من كتاب: ذكريات شاعر مناضل - للمؤلف.


- وكنت أعرف شهدى عطية جيداً - وكانت بينى وبينه مودة كبيرة، إذ كنت ألتقى به كثيراً عند ذهابى إلى مجلة الجماهير أثناء رئاسته لتحريرها، لأسلم له قصائد لى كان يقوم بنشرها فى المجلة، كما التقيت به بعد ذلك مراراً فى لقاءات أخرى - نضالية، وحيث كانت تجرى بيننا أحاديث كثيرة.
- وكان آخر لقاء لى مع شهدى - يوم الإفراج عنى بعفو من سجن مصر - قره ميدان - يوم 29/12/1979، حيث هنأنى بالإفراج، وشد على يدىّ معرباً عن ثقته، ومتمنياً لى أفضل الأمنيات.
- عن وفاة شهدى:
- كنت بعد شهر من الإفراج عنى من سجن قره ميدان، قد افتتحت لى مكتبا للمحاماه فى العمارة رقم 36 بشارع رشدى - الساحة - الواقعة أمام محكمة عابدين بالقاهرة، وكانت الشقة التى استأجرتها هناك مخصصة للمكتب، وللسكن فيها مع زوجتى، وولدى ليلى ويوسف. وباشرت عملى فى ذلك المكتب - كمصدر رزق وحيد لى ولأسرتى - ومن ضمن الموكلين الذين كنت قد بدأت التعامل معهم - المهندس جمال عطية - شقيق شهدى الأصغر، الذى كنت أباشر له حوالى عشرين قضية (بالمجان طبعا). وكان يتردد علىّ فى ذلك المكتب كثيراً بطبيعة الحال. فى أوقات العمل المعتادة. وكان شهدى وقتها سجيناً - وقيد المحاكمة.
غير أننى فوجئت يوم 18 يونيه سنة 1960، بمن يطرق على الباب - وأنا نائم - فى الساعة السادسة صباحاً، فقمت من نومى وأنا منزعج غاية الانزعاج - وفتحت الباب، فإذا بى أرى جمال عطية.
وفتحت له الباب فدخل، وصاحبته إلى غرفة المكتب، وأضأت نور الغرفة، فرأيت أن الشخص الذى دخل – يشبه جمال – ولكنه لم يكن جمال، كان وجهه مكفراً متغير الملامح زائغ النظرات، وكانت عيناه ككاسات الدم، من شدة الأحمرار. تعجبت لأمره، وسألته بإشفاق:
- إيه يا جمال .. مالك؟
أجابنى وهو يجهش ببكاء مرير:
شهدى مات. أتقتل فى السجن.
لم أستوعب الأمر جيداً، وكأنى أردت ألا أصدق، فظللت أنظر إليه مستفهماً وقد عجزت عن النطق. فقال بطريقة لا توحى بأى شك:
- أتقتل من شدة التعذيب. فضلوا يضربوا فيه بالشوم والكرابيج لحد ما مات. أخطرونا امبارح بموته، وطلبوا حضورنا لاستلام الجثة. فأنا رحت المشرحة وشفت الجثة، لقيتها مليانة إصابات فى كل إجزاء جسمه، كأن أسداً افترسه. رفضت استلام الجثة ورحت النيابة، وحكيت لوكيل النيابة على اللى حصل، فقام بفتح محضر وقام معى إلى المشرحة وعاين الجثة وأثبت حالتها فى محضره، كان يملى على كاتب النيابة وصفه لحالة الجثة وهو يبكى. وأخيراً كتب لى رقم المحضر فى ورقة صغيرة سلمها لى، وقال إنه سيحيل المحضر إلى نيابة أمن الدولة، ولكنه نصحنى باستلام الجثمان ودفنه، خوفاً من مزيد من البهدلة، إذ أن إكرام الميت هو دفنه. واستلمنا الجثمان بعد غسله وتكفينه فى المشرحة، ثم قمنا بدفنه فى مقبرة الأسرة بالإمام الشافعى مساءً، فى حضور البوليس.
وصمت قليلاً، ثم عاد يقول:
- والآن ماذا نفعل؟- ما هى الإجراءات القانونية التى نفعلها؟
وجدتنى أرد عليه قائلاً فى سرعة، ودون تردد:
- الإجراءات القانونية ليس وقتها الآن، المطلوب الآن هو فضح هذه الجريمة، فضحها فى مصر، وفى العالم كله. اتركنى لحظة أفكر:
 ثم أخرجت ورقة وقلماً من درج المكتب وبدأت أكتب:
 أول ما قفز إلى ذاكرتى هو بيت من شعر أبو تمام، جاء فى قصيدته الرائيه الشهيرة التى كتبها فى رثاء محمد بن حميد الطوسى، قال فيه:
فتى مات بين الطعن  والضرب  ميتةً
تقوم   مقام   النصر  إن  فاته  النصرُ

وجدت أن هذا البيت ينطبق على ما حدث لشهدى تمام الانطباق. وعلى الفور تبلورت فى ذهنى فكرة أن أكتب نعياً لشهدى، يكون محوره الرئيسى هو هذا البيت، ولذلك قمت بكتابة النعى على النحو الآتى:
شهدى عطية الشافعى
 عطية الشافعى وأسرته ينعون بعد أن واروا عزيزهم فخر الشباب، الأستاذ شهدى عطية الشافعى مقره الأخير، ويقولون لمن واساهم فيه: لن نشكركم فالشكر لكم فى هذا الموقف نكران لوفائكم - وشهدى وذكراه ملك لكم وأمانة فى ضمائركم.
 أما أنت يا عزيزنا الغائب فإننا نرثيك بهذا:

فتى مات بين الطعن  والضرب  ميتة
تقوم  مقام  النصر  إن  فاته  النصر
تردى ثياب  الموت  حُمراً  فما  دجى
لها  الليل إلا وهى من سندسٍ خُضر
وقد  كان  فوت  الموت   سهلاً  فرَدّه
إليه  الحفاظ   المرَّ  والخلق  الوعـر
ونفسٌ    تعاف   العار   حتى   كأنما
هو الكفر  يوم الروع  أودونه  الكفر

سلمت جمال هذا النص، وأعطيته ورقة وقلماً، وطلبت منه أن ينسخه حرفياً بخط يده، وأن يجلس مكانى على المكتب ليقوم بهذا النسخ. فقام بذلك وهو غير مقتنع، وسألنى:
- وماذا سيفعل هذا النعى؟ قلت له:
- سيفعل الأعاجيب. سيقلب الدنيا رأساً على عقب. قال:
- ولكن الصحف لن تنشره؟  قلت له:
- اذهب به إلى جريدة الأهرام، وقدمه إلى الموظف المختص بتلقى نشرات النعى، ولا تقل له أى شئ. وسوف يتسلمه منك دون أن يقرأه أو يعرف ما فيه، وسوف يدفع به إلى المطبعة. قال جمال:
 - ولكن هناك الرقابة على الصحف.  قلت له:
 - من حسن الحظ أن الرقابة لا تتدخل فى صفحة الوفيات.
 وكتب جمال نص النعى بخط يده. وكنت حريصاً على ألا يتقدم بالنص المكتوب بخط يدى، على سبيل الحرص والحذر، وخوفاً من أن يتخذ ذلك دليلاً على قيامى أنا بكتابته،  مما يعرضنى  فى هذا الوقت لخطر جسيم - حده الأدنى هو الغاء العفو الصحى، وإعادتى إلى السجن - بجرة قلم - لإكمال مدة العقوبة التى لم تنفذ على من قبل. ويكفى فى هذا أن يأتى إلى أى شرطى ليقول لى، ماشاء الله، صحتك بقت عال، اتفضل معايا.
راجعت ما كتبه جمال، فلم أجد به أية أخطاء، فطلبت منه أن يذهب به إلى جريدة الأهرام دون تأخير. ففعل.
.....
- سارت الأمور على النحو الذى تصورته وتمنيته، وبعد يومين بالضبط، أى فى صباح يوم 20 يونية، تناولت جريدة الأهرام، وفتحتها على صفحة الوفيات، فوجدت النعى منشوراً بنصه فى مكان بارز من الصفحة، ورأيته خالياً من أى خطأ مطبعى، على خلاف ما يحدث أحياناً فى نشرات النعى. وتصورت أن عمال الجمع والتوضيب فى الصحيفة قد أضافوا باهتمامهم وتعاطفهم، قدراً طيباً من الأثر الذى يتركه هذا النعى العجيب فى نفوس قارئيه. وكان شكل النعى، وما به من شعر، وما بالشعر من وصف للطعن والضرب من شأنه أن يحمل القارئ حملاً على الأهتمام به، وعلى قراءته بكل عناية.
شعرت بارتياح عظيم، وكأننى قد نجحت فى إلقاء قنبلة ذرية على هؤلاء المجرمين الذين قتلوا شهدى عطية ومن سبقوه من الشهداء، والذين عذبوا وأهانوا الكثيرين من ضحايا البطش والطغيان، سواء فى مصر أو فى غيرها من بلاد الله.
- وفى نفس اليوم شعرت بأن الدنيا قد تلقت الرسالة، فقامت ولم تقعد.
- كثير ممن التقيت بهم  فى ذلك اليوم وما بعده من الأيام كانوا قد قرأوا النعى وفهموه حق الفهم، وقدرت أن خبر موت شهدى على هذا النحو - سوف ينتشر فى مصر - وفى العالم كله انتشار النار فى الهشيم، وسيكون موضع اهتمام الصحافة العالمية، ووكالات الأنباء، كما سيكون موضع اهتمام من جانب الرأى العام المصرى والعربى، وأن المجرمين قد أحيط بهم وضبطوا متلبسين بالجرم المشهود، وأيديهم ملطخة بالدماء.
ولم أكن قد عرفت تفاصيل الجريمة التى وقعت صباح يوم 15/6/1960 فى سجن أوردى أبى زعبل، والتى سقط شهدى فيها صريعاً – وأصيب فيها كثير من رفاقه باصابات بالغة، ولكننى عرفت بكل ذلك فيما بعد. عرفته من الروايات الشفوية التى ذاعت فيما بعد، ومن الروايات المكتوبة التى قدمها العديد من الكتاب، ومنهم بعض شهود العيان الذين شهدوا ذلك اليوم المشئوم، ونالهم الكثير من التعذيب والأهانة التى حدثت فيه، وكان أهم ما فى ذلك هو ما كتبه الكاتب المبدع صنع الله إبراهيم عنه فى كتابه: يوميات الواحات.
.....
- آثار الفضيحة:
- وصلت أخبار هذه الجريمة إلى الرئيس جمال عبد الناصر وهو فى زيارة للرئيس تيتو فى يوغوسلافيا، فى نطاق فعاليات حركة عدم الانحياز، وصلته بطريقة درامية وأحرجته أشد الإحراج، فسارع إلى أصدار أمره بالتحقيق فيها، ووقف عمليات التعذيب فى كل السجون، ونقل المسجونين فى سجن أوردى أبى زعبل إلى مكان آمن. وقد نفذت هذه الأوامر بالفعل، فنقل هؤلاء المسجونون، وتوقف التعذيب فى كل السجون، وتم التحقيق مع المسئولين عن الجريمة، وأبعدوا عن عملهم، ولكن القضية التى انتهى إليها التحقيق لم تصل إلى أحكام مُرضيه، إذ حفظ الشق الجنائى فيها اكتفاء بالجزاءات الإدارية، أما الشق المدنى، فقد صدر الحكم فيه بتعويض ورثه شهدى بتعويض هزيل، هو عشرة آلاف جنية، فقط لاغير.
- وبقيت من آثار افتضاح الجريمة نتائج لا يستهان بها هى:
- الفضيحة السياسية لنظام الديكتاتورية العسكرية - كخطوة هامة على طريق ازاحته واسقاطه، وهو ما تم بعد ذلك ولله الحمد.
- وقف أعمال التعذيب والإهانة للمسجونين والمعتقلين السياسيين فى سائر السجون والمعتقلات فى مصر، لسنوات طويلة، وحتى الآن، بصفة عامة.
- انزال العقاب بفريق من المجرمين الذين ساموا مئات أو ألوف من الابرياء والشرفاء، العذاب المادى والمعنوى، على مدى عشرات السنين، فى ظل الدكتاتورية العسكرية والبوليسية، وردع الآخرين عن انتهاج الأفعال الوحشية المشابهة.
- علم الكثيرون بالدور الذى قمت به فى فضح جريمة قتل شهدى، ولكنهم أحاطونى بستارٍ من الكتمان، لحمايتى من الأعمال الانتقامية التى كان متوقعاً أن تلحق بى فيما لو عرف المختصون بهذا الدور، أو تأكدوا منه، فمرت الفترة الحرجة التالية لتلك الأحداث بسلام. وعندما بدأ البعض يكتبون عما حدث، أغفل الكثير منهم ذكر هذا الدور، إما حماية لى، أو حسداً لى وغضاً من شأنى.
ويكاد يكون صنع الله إبراهيم هو الكاتب الوحيد الذى كشف عن الواقعة بكل دقة وأمانة ووضوح، ويرجع ذلك إلى أنه كان شاهد عيان عن كل ما حدث، وكان مشاركاً فى الأحداث المأساوية التى اتصلت بواقعة قتل شهدى، كما يرجع إلى أنه كاتب شجاع وأمين.
- ولم تكن جريمة قتل شهدى هى أول جريمة وقعت فى ذلك العهد على أحد من المسجونين والمعتقلين الشيوعيين، فقبلها وقعت جريمتان مماثلتان، قتل فى احداها الطبيب فريد حداد وقتل فى الثانية المناضل محمد عثمان، ومضت الجريمتان دون عقاب ودون أن يترتب عليهما أثر يذكر، أما جريمة قتل شهدى، فقد ترتب على وقوعها، وفضحها أثر كبير، سواء فى زمن وقوعها، أو بعده بوقت طويل، سواء فى فضح جرائم الدكتاتورية العسكرية وادانتها، أو فى وقف اعمال التعذيب والإهانة التى كانت تقع على المسجونين والمعتقلين الشيوعيين، أو غير الشيوعيين.
كلما تمثلت جريمة قتل شهدى على يد النظام الدكتاتورى، تمثلتها مقترنه بقصة مصرع أوزوريس، ومأساة إيزيس فى الزمن المصرى الموغل فى القدم، فسلامُ على أوزوريس، وسلام على شهدى عطية، وسلامُ على شهداء الحق فى كل زمان ومكان.
- مررت بفترة غريبة من فترات حياتى بعد مصرع شهدى، والتجربة الغريبة التى مررت بها فى كتابة النعى ونشره، ثم فى متابعة نتائج ذلك وردود أفعاله، محلياً وعالمياً. كنت أشعر بأننى فى حالة ذهول، عما حدث ويحدث، وكأننى أعيش بين النوم واليقظة، أرى وجوهاً كثيرة وكأننى لا أراها، وجوهاً تنظر إلى وتحدثنى بلطفٍ بالغ ومودة ظاهرة، أتلقاها بشرود، وكأننى لا أسمع ما تقوله، ولا أفهم معناه، والد شهدى واخوته، جمال ومنير، وأخته الدكتورة نعيمة، وزوجة شهدى الحزينة روكسان، وابنته الطفلة حنان، ووالدة روكسان، وشقيقتاها ليلى وانتيجون، وعدد من قريباتها وأقربائها، ثم مدام جاك أريبه - والدة ألبير أريبه، ومعارفها من عائلات المسجونين الشيوعيين، ومن أصدقائها الأجانب والمصريين، العارفين بموضوع شهدى، ومعارفه من المصريين والأجانب، محمد عوده الكاتب الصحفى الكبير، وزوجته عائشة، والصحفى التشيكى چورچ بوتشيك مراسل جريدة رودى براڤو التشيكية، وزوجتة كروبنسكا، الصحفية البولندية، وغيرهم، كل هذه الوجوه التى كنت أراها وترانى إما فى منزل والد شهدى بشارع شريف، أو فى محل نيولندن هاوس بميدان مصطفى كامل، وإما فى منزل شهدى نفسه بالزمالك.
كنت أرى كل هذه الوجوه، وترانى وأنا فى حالة قريبة من الذهول، ودون أن يحدثنى أحد أو أحدثه عن دورى فى فضح جريمة اغتيال شهدى، كنت أشعر أنهم يعرفون هذا الدور، ويقدرونه، وأنهم يكتمونه فى نفوسهم ويتسترون عليه، دون أن أطلب أنا ذلك من أحد، وأنهم يعرفون من تلقاء أنفسهم مبلغ ما ينطوى عليه من خطر داهم على حياتى، وعلى أمنى وسلامتى، ولذلك فإنهم يتطوعون لحمايتى، بالتعاطف، وبالصمت والسكوت.
.....
كل هذه الآثار قد نجمت عن الدور الذى لعبته فى فضح الجريمة، وهى آثار ما كانت لتحدث لولا إرادة الله ومشيئته، ولولا رحمته ورضوانه، ولولا أبياتُ من شعر أبى تمام العظيم، مديده بها إلىّ عبر أكثر من ألف سنة، ففضحت الجريمة، وأثارت الناس، وأقامت الدنيا ولم تقعدها.
وها أنا أنحنى بالتحيه والشكر لروح أبى تمام العظيم ولذكراه.
وتعبيراً عن شكرى وحبى وتقديرى لهذا الشاعر المجيد، فإنى سأورد فى نهاية هذا الفصل من كتابى هذا نص قصيدته الرائيه الرائعه التى اشتملت على الأبيات الأربعة التى كان لها الفضل فى تحقيق تلك المعجزات.
.....




ملحق الفصل التاسع من كتاب: أنا والشعر
رائية الشاعر العربى المجيد أبى تمام
فى رثاء محمد بن حميد الطوسى
ـــــــــــــــــــــ
كَذا  فَليَجِلَّ   الخَطبُ   وَليَفدَحِ    الأَمرُ
فَلَيسَ  لِعَينٍ  لَم  يَفِض  ماؤُها  عُــــذرُ
تُوُفِّيَــتِ     الآمالُ     بَعدَ     مُحَمَّـــــدٍ
وَأَصبَحَ  في  شُغلٍ عَنِ  السَفَرِ السَفـــرُ
وَمــا   كانَ  إِلّا مــالَ  مَن  قَـلَّ  مالُــهُ
وَذُخراً  لِمَن  أَمسى  وَلَيسَ  لَهُ  ذُخـــرُ
وَما  كانَ  يَــدري  مُجتَدي  جودِ  كَفِّـهِ
إِذا  ما   اِستَهَلَّـت  أَنَّهُ  خُلِـقَ  العُســـرُ
أَلا  في  سَبيــلِ  اللَهِ  مَن  عُطِّلَـت  لَــهُ
فِجــاجُ   سَبيلِ  اللَهِ   وَاِنثَغَـــر  الثَغـــرُ
فَتىً   كُلَّمــا  فاضَت  عُيــــونُ   قَبيلَــةٍ
دَماً  ضَحِكَت  عَنهُ  الأَحاديثُ  وَالذِكرُ
فتى  دهره  شطـــران  فيمـا    ينوبُــه
ففى  بأسه  شَطرُ  وفى  جوده  شَطــر
فَتىً  ماتَ  بَينَ  الطَعنِ والضَربِ ميتَةً
تَقومُ  مَقامَ  النَصرِ  إِن  فاتَهُ  النَصــــرُ
وَما  ماتَ  حَتّى  ماتَ  مَضرِبُ  سَيفِهِ
مِنَ الضَربِ  وَاِعتَلَّت عَلَيهِ القَنا السُمرُ
وَقَد  كانَ  فَوتُ  المَوتِ  سَهلاً  فَـــرَدَّهُ
إِلَيهِ  الحِفاظُ  المُــرُّ  وَالخُلُـقُ  الوَعـــرُ
وَنَفسٌ   تَعــافُ   العــارَ  حَتّى  كَأَنَّمــا
هُوَ الكُفرُ  يَومَ الرَوعِ  أَو  دونَهُ  الكُفرُ
فَأَثبَتَ   في   مُستَنقَعِ   المَوتِ   رِجلَـهُ
وَقالَ  لَها:  مِن تَحتِ أَخمُصِكِ  الحَشرُ
غَدا  غَدوَةً   وَالحَمـــدُ   نَسجُ   رِدائِــهِ
فَلَـم  يَنصَــرِف  إِلّا  وَأَكفانُـهُ  الأَجـــرُ
تَرَدّى  ثِيابَ  المَوتِ  حُمراً  فَما  دجى
لَها  اللَيلُ إِلّا وَهيَ  مِن  سُندُسٍ خُضرُ
كَــأَنَّ   بَني   نَبهـــانَ   يَـــومَ   وَفاتِــهِ
نُجـومُ  سَمـاءٍ  خَـرَّ مِن  بَينِهـا  البَـــدرُ
يُعَزَّونَ  عَن  ثاوٍ  تُعَـــزّى  بِهِ  العُــلا
وَيَبكي  عَلَيهِ  البَأسُ و الجودُ  وَالشِعـرُ
وَأَنّى  لَهُم  صَبــرٌ  عَلَيهِ  وَقَد  مَضــى
إِلى المَوتِ حَتّى  اِستُشهِدا هُوَ وَالصَبرُ
فَتىً  كانَ عَذبَ الروحِ  لا مِن غَضاضَةٍ
وَلَكِـنَّ  كِبــراً  أَن  يُقــالَ   بِهِ   كِبـــرُ
فَتىً   سَلَبَتهُ  الخَيـــلُ  وَهـوَ حِمىً  لَهـــا
وَبَزَّتهُ  نارُ  الحَربِ  وَهوَ  لَها  جَمرُ
وَقَد  كانَتِ  البيضُ  المَآثيرُ  في  الوَغى
بَواتِــرَ  فَهـيَ  الآنَ  مِن  بَعـدِهِ  بُتــرُ
أَمِـن   بَعدِ   طَيِّ   الحادِثــاتِ   مُحَمَّـــداً
يَكـونُ  لِأَثــوابِ  النَـدى  أَبَـداً  نَشــرُ
إِذا  شَجَراتُ  العُـرفِ  جُـذَّت  أُصولُهــا
فَفي أَيِّ  فَرعٍ  يوجَدُ  الوَرَقُ  النَضـرُ
لَئِــن  أُبغِـضَ  الدَهـرُ  الخَئــونُ   لِفَقــدِهِ
لَعَهــدي  بِهِ  مِمَّن  يُحَبُّ  لَهُ  الدَهــرُ
لَئِـن  غَـــدَرَت  في  الـرَوعِ   أَيّامُـهُ  بِـهِ
فَما  زالَـتِ  الأَيّــامُ  شيمَتُهـا  الغَـــدرُ
لَئِـن  أُلبِسَـت   فيـهِ    المُصيبَـةَ   طَيِّــئٌ
فَمـا  عُرِّيَـت  مِنهـا  تَميـمٌ  وَلا  بَكــرُ
كَذَلِـكَ  مـــا   نَنفَــكُّ    نَفقِــدُ     هالِكـــاً
يُشارِكُنا  في  فَقدِهِ  البَدوُ  وَالحَضـــرُ
سَقى الغَيثُ غَيثاً وارَتِ  الأَرضُ شَخصَهُ
وَإِن  لَم  يَكُن فيهِ  سَحابٌ  وَلا  قَطـرُ
وَكَيـفَ   اِحتِمالـي   لِلغيــوث   صَنيعَــةً
بِإِسقائِهـا  قَبــراً  وَفي  لَحـدِهِ  البَحــرُ
مَضى  طاهِرَ الأَثوابِ  لَم  تَبقَ  رَوضَةٌ
غَداة  ثَـوى  إِلّا  اِشتَهَــت  أَنَّهـا  قَبــرُ
ثَوى في  الثَرى مَن كانَ  يَحيا بِهِ  الثَرى
وَيَغمُرُ  صَرفَ  الدَهرِ  نائِلُهُ  الغَمــرُ
عَلَيــــكَ   سَـــلامُ   اللَهِ   وَقفــاً   فَإِنَّنــي
رَأَيتُ  الكَريمَ  الحُرَّ  لَيسَ  لَهُ  عُمــرُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق