مقدمة: حول معانى تكريم الأمم لمن يستحقون التكريم من أبنائها



مفاجأة سارة:
فوجئت مفاجأة سارة - وأنا أسير نحو التاسعة والثمانين من العمر - بصدور قرار من الدكتور جابر عصفور - وزير الثقافة - بأعتزام الوزارة إقامة حفل تكريم لى - بصفتى شاعراً، وبصفتى واحداً من الرواد فى الحركة الثقافية المصرية، والواقع أنها كانت  مفاجئة سارة لم أنتظرها ولم أتوقعها، ذلك لأننى لم أتعود على التكريم، بل إننى تعودت على التجاهل والنكران، فلم أحصل على أية جائزة على عطائى فى الشعر، سواء من مصر أو من أى بلد عربى، ولم أحصل على أى تكريم لا مادى ولا أدبى، اللهم إلا حفلة التكريم التى أقامها المركز الثقافى الروسى منذ اثنتى عشرة عاماً، بمناسبة بلوغى سن الثمانين، وصدور ديوانى - مختارات من شعر محمود توفيق، وفى هذه الحفلة، قدم لى مدير المركز وساماً روسياً رفيعاً هو وسام الصداقة الروسى احتفاء بالديوان، وبقصيدة "دمع على طلل"، التى عبرت فيها عن مشاعرى عند سقوط الأتحاد السوفييتى سنة 1990.
وتلت ذلك بعشر سنوات، إقامة حفلة تكريم لى من الصديق الدكتور ممدوح حمزة فى جمعية: المجلس الوطنى المصرى، كشاعر، وكمناضل وطنى.
وكان هذا كل ما عرفته من مظاهر التكريم.
على كل حال، أنا شاكر للأخ العزيز الدكتور جابر عصفور على مبادرته الطيبة بإقامة هذا الحفل، الذى أسعد بأن يكون بداية لعهد جديد، يجرى فيه تكريم من يستحقون التكريم من أبناء مصر، ومن الشعراء والكتاب والمفكرين والفنانين منهم على وجه الخصوص.
- إن الأهتمام بتكريم من يستحقون التكريم من أبناء الأمة من شأنه أن يرفع من شأن هذه الأمة، وخاصة فى مجالات الشعر والأدب والفن والفكر، وهو مقياس حاسم لمدى تقدمها ورقيها وحضارتها، كما أنه عامل مؤكد فى تحقيق نهضتها فى المجالات المادية والمعنوية.
ذلك لأن النابهين من أبناء الأمة، وخاصة من الشعراء والكتاب والفنانين هم رصيد من أرصدة ثروتها البشرية، والمادية والمعنوية.
- كما أن هذا التكريم يعود بالخير العظيم - المادى والمعنوى على هذه الأمة، من حيث أنه يساهم مساهمة فعالة فى تهذيب نفوس المواطنين، وفى الأرتفاع بمستويات السلوك - الوطنى والأجتماعى والأخلاقى - لتلك المجتمعات.
- ووسائل وأساليب التكريم متنوعة وعديدة، منها الأحتفالات والتماثيل، والمتاحف، وإطلاق الأسماء التذكارية على المنشأت، وعلى المعاهد والمدارس، والجامعات، بل على المدن، مثل واشنطون، وليننجراد، وستالنجراد، وغيرها من المدن، فى سائر بلاد العالم المتمدن، وقد كان الشعر من أهم وسائل التكريم فى عالمنا العربى حيث تعتبر قصائد المدح والرثاء، أهم وسائط الإشادة بالنابهين، واعلاء ذكرهم بين الناس، ولم تكن لدى العرب تلك الوسائط المتنوعة لتكريم النابهين لديهم، كالتماثيل أو الصور أو غيرها من الوسائط، أما الشعر فإنه متوفر، وهو يمكن أن يقال، ويروى، ويكتب، ويحفظ، فى أى وقت، وفى أى مكان.
- أما فى المجتمعات الأخرى - وخاصة المتقدمة منها، الأوربية والأمريكية منها على وجه الخصوص فقد كانت هناك ومازالت وسائط أخرى للتكريم، كالتماثيل، والصور، والمتاحف، والمزارات، وغيرها، وكان هناك المزيد من الوعى والأدراك لأهمية تقديم مظاهر التكريم لمن يستحقونه من أبناء هذه الأمم، وفى هذه الدول - يكاد لا يوجد مكان، مدينة أو بلدة أو حتى قرية، لا يوجد بها تمثال أو متحف أو نصب تذكارى، أو مزار، لتكريم أحد من أبنائها النابهين، سواء من الشعراء أو الفنانين أو القادة السياسيين أو العسكريين أو غيرهم، للأشادة به واحياء ذكراه.
- وتلعب هذه المنشأت دوراً هاماً فى التعبير عن حضارة تلك الأمم وثقافتها وتقدمها، بل وفى الترفيه عنها واسعادها.
فى مدينة موسكو، وفى منتصفها توجد حديقة غناء، يتوسطها تمثال رائع للشاعر بوشكين - أعظم وأشهر الشعراء الروس، والذى عاش ومات منذ قرنين من الزمان، ويؤم الحديقة كل يوم المئات من أبناء الشعب، وخاصة من الشباب والمحبين والخطاب، ليتنزهوا فيها ويتجولوا حول التمثال أو ليجلسوا إلى جواره، وليضعوا على قاعدته باقات من الزهور تعبيراً عن حبهم لهذا الشاعر العظيم، وتقديراً لإبداعه، ولعطائه فى الأدب الروسى، ومنذ زمن بعيد أصبح هذا السلوك عُرفاً راسخاً لهؤلاء الشباب، وخاصة للمحبين والخطاب، وهو يتيح لهم قضاء أوقات جميلة، ثم بعد ذلك يساعدهم على بناء أسر سعيدة.
- وتوجد فى موسكو وغيرها من المدن الروسية الأخرى، الكثير من هذه النزل والمنشئات.
- وفى مدينة براغ الجميلة، عاصمة تشيكوسلوفاكيا السابقة، ودولة التشيك حالياً - حديقة مماثلة تقع فى حديقة سنترال بارك، يتوسطها تمثال جميل آخر، لشاعر عبقرى اسمه كاريل جوت ماخا، الذى كان قد مات وهو فى ريعان الشباب، وفى أيام الأعياد والعطلات تجد فى هذه الحديقة، وحول هذا التمثال، أفواجاً من الشباب، بل ومن الأطفال، يتجولون ويمرحون، ويضعون على قاعدته باقات من الأزهار، وأحياناً يغنون ويعزفون على آلاتهم الموسيقية، تعبيراً عن حبهم لهذا الشاعر العبقرى الشاب، واحترامهم لذكراه.
ومثل ذلك يحدث فى مختلف البلاد الراقية، النمسا وإيطاليا، ألمانيا وفرنسا، إنجلترا وأمريكا، حيث لا تخلو أى بلد من بلدان تلك الأقطار، من مثل هذه التماثيل والمتاحف، والمزارات، التى أقيمت لتخليد الشعراء والكتاب والفنانين، وغيرهم من الأفذاذ.
- مازلت أذكر أغنية عبد الحليم حافظ  - من كلمات صلاح چاهين، والتى كانت تحلم برؤية "تماثيل رخام على الترعة و أوبرا، فى كل قرية عربية، فما الذى حدث لهذا الحلم؟.
- وأخيراً أقول: إن تكريم الأمة لمن يستحقون التكريم من أبنائها، ليس تكريماً لأشخاصهم فحسب، وإنما هو تكريم للقيم والمبادئ التى يمثلونها ويعبرون عنها - والتى هى القيم والفضائل التى تتبناها الأمة ذاتها، وهكذا يصبح تكريم هؤلاء الأفذاذ، إنما هو فى النهاية، تكريماً للأمة ذاتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق