الفصل الثالث: كيف أكتب الشعر



كيف أكتب الشعر؟
أكاد أتفق مع الشاعر - وأظنه نزار قبانى - الذى قال: أنا لا أكتب الشعر، ولكنه هو الذى يكتبنى.
أقول ذلك بمعنى أننى لا أتعمد كتابة الشعر، بل إن الشعر يأتينى عفوا، وكأنه يأتى رغم ارادتى، وهو يأتينى بصورة تلقائية كما يفيض الماء من النبع، أو كما يفيض الدمع من العين، عندما تتوفر الأسباب الداعية إلى ذلك. وأقول فى هذا المعنى، فى رثائى للمرحوم الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى الذى كان شقيق روحى:

حَنانيكَ   هذا  الشِعرُ  ذوبُ    مَشاعـرٍ
يفيضُ  بهـا  الـوُدُّ  القديـمُ  المُجَـرَّبُ
وحَقِـكَ  ما  صـاغَ   اليَراعُ    حُروفَـهُ
ولكنهـا    من   مُهجتـى    تَتَصَبَــب
يجيشُ  بها   بحرُ  الصبابةِ   والهوى
وأمواجُـهُ   تُملـى   علـىَّ    فأكْتـــب

ولا يحدث ذلك إلا إذا توفرت الظروف والأسباب الداعية له، وخاصة عندما أكون فى حالة انفعال شديد، وجيشان عاطفى ووجدانى، يفتح عندى أبواب الشعر، كما يفتح عندى مجارى الدموع، وفى ذلك أقول فى قصيدة رثاء الشرقاوى السالفة الذكر:

أيا  صاحبى  عَـزَّ  اللِقـاءُ   وشاقَنـى
إليــكَ   حنينـى  والفـؤادُ   المُعَـــذَّب
وخاصـمَ   جَفْنَىَّ    الكـرى   وكأننىِ
أبيتُ  علـى  نــارِ  الجَــوَى  أتقلَّــب
كأنَّ  بعينى   ليلـةً  ضــاعَ   فّجْرُهــا
إذا  لاحَ  فيها  كوكبٌ  خَـرَّ  كوكــب
أُنا  جيكَ  فى  ليلِ  السُهادِ  ومُهجتى
بلوعتِهـا   فى   أدمُعــى    تتســـرَّب
فإن  تسكبْ  العينُ  العصِيَّةُ  دمعَهــا
فكم  كان لى منكَ  الصديقُ  المُحبَب
وكم كان  لى  منكَ  الرفيقُ  منُاضلاً
وكم  كان لى  منكَ  الأنيسُ  المُهذَّب
وكنتُ  إذاَ  عَـزَّ  النصـيرُ  أجارَنــى
إلـى  كَنـَفٍ  مِنـكَ  الحَفِـىُّ المُرَحِّــبُ

كنت عند كتابتى لهذه القصيدة، واسمها "الشمس الغاربة"، فى غاية الحزن والانفعال والمرض، وكنت طريح الفراش لا يرقأ لى دمع على أثر علمى بوفاة الشرقاوى، لدرجة أننى حين ذهبت مع الذاهبين لمواراة  جثمانه التراب فى مدفنه بمصر الجديدة أنشج على قبره بنشيج مرتفع، كما تفعل أم فقدت أعز أبنائها، حتى لقد أزعج بكائى الحاضرين، ومنهم المرحوم الدكتور طه النمر، الذى جاء إلى مكان جلوسى، وأخذ يربت علىّ ويقول مواسياً: هون عليك يا أخى، كلنا لها. وفور عودتى إلى منزلى بدأت أبيات القصيدة تهبط علىّ من مكان مجهول، وكأن أحداً يمليها على إملاءً. كان الشعر يهبط علىّ كما يهبط الحمام على أغصان أيكة فرعاء. كان يهبط علىّ وكأنه يمسك بتلابيبى ولا يريد أن يتركنى، ويهبط علىّ وأنا فى أى وضع أكون فيه، وأنا جالس، وأنا سائر، وأنا على سريرى، وأنا على مائدة الطعام. كان يهبط علىّ وأنا يقظ، وأنا نائم، وأنا بين اليقظه والنوم. وكان يحدث أن ابدأ فى صياغة بيت من الأبيات ثم أغفو واستيقظ فأجدنى قد اكملت البيت وأنا نائم، وأن عقلى كان يقظاً وأنا نائم، وكان هو يعمل وحده فى استكمال القصيدة. يومان مرا على مرور دهر بأكمله، حتى أكملت كتابة القصيدة، ورقدت بعدها دون حراك. ثم رحت فى نوم عميق.
وكل قصائدى قد كتبتها وأنا فى حالة مماثلة أو مشابهة أو مقاربة للحالة التى كنت عليها عند كتابة "الشمس الغاربة".
فالشعر عندى، والشعور، هما فرعان فى شجرة واحدة، وأنا لا أستطيع أن أكتب الشعر، إلا إذا كنت فى حالة انفعال صادق، وفى حالة جيشان عاطفى غلاب.
- ولا يحدث ذلك فى المراثى وحدها، بل فى سائر أبواب الشعر التى كتبت فيها، كان الجيشان العاطفى والبكاء لا يأتيان علىّ عند كتابه المراثى وحدها، بل عند كتابة أى من قصائدى، وقد كنت أبكى حتى وأنا أكتب القصائد الوطنية، والفلسفية، بل والقصائد الغرامية أيضاً، إذ أن الشعر من حيث أنه شعر فقط، وأيا كان موضوعه، كفيل باثارة أشجانى، وباستحضار حالة الجيشان العاطفى لدى. ومن ثم كفيلاً باسالة دمعى. مع أن دموعى شحيحة دائماً، فى كل مواقف الحياة الأخرى.
- ويولد الأنفعال والجيشان العاطفى عندى، من شرارة واحدة تأتينى من أى مصدر، تأتى عفواً وعلى غير انتظار، تأتى من حدث من الأحداث، أو من خاطر من الخواطر، أو من كلمة أسمعها أو أقرأها فى صحيفة أو كتاب، أو من مشهد سينمائى أو مسرحى، أو من تذكر أمر من الأمور، أو ذكرى من الذكريات، أو لحن من الألحان، أو أغنية من الأغنيات. المهم أن تكون هناك شرارة، تتولد منها حالة، تنشأ بسببها شحنة عاطفية ووجدانية، وحالة جيشان عاطفى ووجدانى، يبدأ خلالها ميلاد القصيدة من عبارة أو لحن شعرى، ومن شطرة واحدة، أو بيت واحد من الشعر، لتكون شطرات وأبيات أخرى، حتى تكتمل القصيدة فى النهاية.
ولا يشترط أن يكون البيت أو الأبيات التى تأتى من أول القصيدة، فقد يحدث أن تكون - عند اكتمال القصيدة ووضعها فى صورتها الأخيرة، من أول القصيدة، أو من وسطها أو من نهايتها. الشعر يتكون أولاً من أجزاء متناثرة لا يربطها رابط، إلا الروح، والمعنى، والموسيقى، ثم رويداً رويداً يبدأ فى التكاثف، والتجمل، والانتظام، حتى تتخذ القصيدة شكلها الأخير، بعد ذلك تخضع لشئ من التنقيح حتى تنتهى وأفرغ منها تماما، وتأخذ هذه العملية ساعة أو ساعات، أو يوماً أو أيام، أو شهراً أو شهوراً، وفقاً لطولها أو قصرها، لبساطة أو تعقيد موضوعها.
- وشكل القصيدة عندى يفرضه موضوعها، إذ أن الموضوع هو الذى يملى على - بطريقة تلقائية ولا إرادية طريقة صياغة الشعر، واختيار الموسيقى - أى الوزن والقافية، وفقاً لعملية اختيار غامضة ولا إرادية، يقوم بها جهاز عقلى ونفسى ووجدانى، موجود فى داخلى، ولا أعرف عنه شيئاً، اسمه الذائقة، لا سلطان لى عليه.
- ومتى آن أوان وضع القصيدة، فإنها تتنزل على فى أى مكان وفى أى زمان. فى البيت، فى العمل، فى الطريق، وكأنها ولادة المرأة لطفلها، فى أى مكان، حتى فى القطار أو الأوتوبيس.
- وعندما يحين وضع القصيدة، فإنى أكتبها، أو أبدأ فى كتابتها دون ورقة أو قلم، وفى النور أو فى الظلام، وفى شعرى كثير من القصائد التى أنشأتها وأكملتها فى الظلام، ودون ورقة أو قلم، إذ كنت أنشأها فى ذهنى، وأكملها، وأنقحها حتى تكتمل فى ظلمة الليل أو النهار، فى عقلى، ولا أكتبها إلا بعد ذلك بوقت يطول أو يقصر، وتلك عادة تعودت عليها فى السجون، وتحت ضغط الحاجة والظروف القهرية.
- إن قدرتى على الاختيار فى مجال الشعر محدودة، فموضوع القصيدة تفرضه الظروف التى سبق لى بيانها، وشكل القصيدة وأسلوب كتابتها وموسيقاها، يفرضها جميعاً موضوع القصيدة على ما سبق لى القول.
- وحتى اختيارى للأسلوب الذى اكتب به كل قصيدة، وأكتب به شعرى كله، هو اختيار محدود.
فمنذ أن استقرت موهبتى الشعرية، واتخذت طريقها النهائى، التزمت بانتهاج أسلوب البساطة فى لغة الشعر، البساطة والسلاسة على قدر الامكان، والمزج التام - على قدر الامكان - بين العناصر الفكرية والعاطفية والوجدانية فى موضوع الشعر.
- وبالنسبة لبساطة وسلاسة لغة شعرى، أقول أننى التزمت بهذا الأسلوب لا بناء على اختيارى وذوقى الخاص فقط، وانما أيضاً، لاتصالى بأوساط، لا تفهم إلا اللغة البسيطة السلسة، وتنفر من التعقيد والتقعر الذى يعمد إليه بعض ناظمى الشعر أو كاتبى النثر.
فى الواحات، وعلى أثر قيام المرحوم صلاح حافظ بألقاء قصيدتى المطولة "أعياد" على جمع من المسجونين، وقف زميل اسمه أحمد خضر كان من عمال النسيج البسطاء معلقاً على القصيدة بقوله:
- هذا هو الشعر الذى أُحبه وأفهمه، أما الشعر الآخر، الصعب المعقد، فإنى اكرهه ولا أفهمه ولا أُحب سماعه.
وكانت قصيدة أعياد ينطبق عليها بالفعل وصف أحمد خضر لها.
جاء فى القصيدة، وهى قصيدة وطنية بالغة الطول، كُتبت بمناسبة جلاء القوات البريطانية عن مصر، وتتضمن استعراضا لنضال الشعب المصرى الطويل من أجل تحقيق هذا الجلاء، وكان فى القصيدة إشارة إلى واقعة كوبرى عباس بالقاهرة، والتى قتل فيها عدد كبير من طلبة الجامعة غرقا أو إغراقاً فى النيل.
أقول فى ذلك:

وكبـــــــارى         القاهــــــــــــرة
والميــــــــاه          الـثـائـــــــــره
فتحــــــــــتْ         أحضـانهــــــــا
للـدمــــــــاء         الطـاهــــــــره
....
فتـــــح      النيـــل      العظيـــــــمْ
وهـو     يمضى     فى     إبــــــاءْ
قلبـه        العــــذب     الرحيــــــمْ
لـقـلـــــــــوب         الشـهــــــــداءْ
....
فسَــــــــرَتْ           أرواحهــــــــم
فى       المــــــروج      الرائعـــة
فى       الشطـــوط      الحالمــــــة
فى       الحقــــــــول     اليانعــــة
فى     عبيــــــــــر      الياسمــــــينْ
فى      الغصــــــــون     المائســة
بين     أحضـــــــــان    النسيــــــــمْ
فى      العيــــــــــون     الناعســة

وكانت هذه البساطة والسهولة، هى التى حدت بأحمد خضر، عامل النسيج إلى الوقوف والتعليق عليها بما سبق ذكره.
ومن يومها وأنا ألزم نفسى بانتهاج هذه السهولة والبساطة والسلاسة، نهجا لى فى صياغة شعرى.
- ومثل ذلك حدث لى مع تلميذتين صغيرتين من أقاربى، كنت لاجئاً فى منزل اسرتهما أثناء اختفائى هروباً من الاعتقال، وذلك عندما ماتت الشهيدة الفلسطينية دلال المغربى، وكتبت عنها قصيدة رثاء عنوانها "إلى دلال" . وكنت أقرأ للأسرة تلك القصيدة، وكانت تقول:

عنـدمـا مــاتت دلالْ ..
ولدتْ  فى  الليلة  الظلماءِ  نجمـه
وتراءتْ فى سماء  القدس  بسمـه ..
وتناهى من فلسطينَ عبيرُ  البرتقالْ
.....
عندما جاءت مع الموجِ فلسطين الجديدة ..
ترتـــدى ثـــوب شهيـــده ..
أشرق الرمل  ولان الصخر وانساب الحنينْ ...
فى عظــــام الأَقدمــــين !
.....
إن تكن ماتت فما مات  الفداءْ ..
لا  ولا ماتتْ موازينُ  الفضيلــه ..
لم  تمُت  إِلا  نفــــوس  الجبنـــاءْ ..
لم  تمُتْ  إِلا  الحسابـــاتُ الذليلــه
.....
فإِذا  عـــاد  إِلى  حيفــا  الربيــــــعْ ...
وهَمَى فوق  الرُبى  صــوبُ  المطــر ..
سوف تنمو  فوق  كثبـــانِ  الرمــالْ ..
كل  يومٍ  وردةٌ  تُدعَى  " دلال " !
.....

وفوجئت بعد انتهائى من تلاوة هذه القصيدة على الأسرة التى تستضيفنى، بالفتاتين، أميرة ووفاء، التلميذتين بالمدرسة الاعدادية وهما تنخرطان فى البكاء والنشيج تأثراً بالقصيدة، وأدركت أن بساطة وسهولة لغة القصيدة، وكلماتها التى لا تزيد عن خمسة وسبعين كلمة، كانت وراء فهم الفتاتين لها، وتأثرهما بها. وتأكدت لى حقيقة أن السهل الممتنع هو أفضل طريقة لوصول الشعر إلى القلوب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق