الفصل الثانى: كيف أصبحت شاعراً



كيف أصبحت شاعراً:
  لم أتعلم الشعر فى مدرسة أو جامعة، ولم أدرس علم العروض لأعرف كيف تقام موسيقى الشعر بالأوزان والقوافى، والموسيقى الخارجية والداخلية التى ينبغى تحقيقها والالتزام بها، وحتى اليوم فإنى لا علم لى بعلم العروض، سوى بعض العلم ببحور الشعر، وأسمائها، وببعض المعرفة ببعض عيوب الوزن والقافية التى قد يقع فيها الشعراء.
وقد كنت قد بدأت فى دراسة علم العروض فى مستهل حياتى، غير أننى توقفت عن استكمال هذه الدراسة، بعد أن شعرت بنفور شديد من الاستمرار فيها.
ومع ذلك، فالشعر الذى كتبته يخلو تماماً من أية أخطاء من هذا القبيل. فكيف كان ذلك؟.
الصحيح أن أقول: إننى لم أتعلم الشعر، بل "تشربته"، فكيف تشربته؟ عرفت الشعر وأحببته وتشربته وتذوقته من ثلاثة موارد:
الأول: هو ديوان والدى الشاعر محمد توفيق على.
والثانى: هو كتاب المنتخب من أدب العرب.
والثالث: هو ديوان الشعر العربى.
   وأعود إلى بيان لهذا القول الموجز:
الأول: ديوان والدى الشاعر الراحل محمد توفيق على -
وأقول فى ذلك: إنه بعد وفاة والدى فى أول سنة 1937، بسنتين، وقعت دواوينه المخطوطة الخمسة فى يدى بعد محاولات ومغامرات لا محل لذكرها هنا، ومنذ حدث ذلك، فقد دأبت على قراءة هذه الدواوين المرة تلو المرة، والأنغماس فى تلك القراءة بكل عقلى، وبكل مشاعرى ووجدانى، كان ذلك بسبب حبى لوالدى، وإدراكى أن هذا الشعر، هو جزء حىّ منه، وأنه هو حلقة صلة بين روحى وروحه، وكان ذلك بسبب جمال هذا الشعر، وروعته، التى أخذت تتسرب إلى داخلى، وتسيطر على كل مشاعرى وأحاسيسى، وأخذت أحس بأن هذا الشعر أصبح جزءاً منى، وأننى أصبحت جزءاً منه، حتى أننى بعد ذلك، ومن كثرة ما قرأته، أصبحت أكاد أحفظه عن ظهر قلب.
والثانى: هو كتاب المنتخب من أدب العرب: 
وكان هذا الكتاب يتكون من أربعة أجزاء، ويوزع جزء منها على تلاميذ المدارس الثانوية كل عام، خارج المقرر الدراسى، وبهدف رئيسى هو مساعدة التلاميذ على معرفة المزيد من اللغة العربية، وأدابها. كان كتابا أشرفت على إصداره مجموعة من كبار أساتذة الأدب العربى مثل: طه حسين، أحمد أمين، على الجارم، عبد العزيز البشرى، أحمد ضيف. وكان مطبوعاً طباعة جميلة فى المطابع الأميرية، ويوزع على التلاميذ بالمجان، تباعاً، جزء منه كل عام من أعوام الدراسة من السنة الأولى إلى السنة الرابعة الثانوية، توخياً لتحقيق أثره الحميد فى الارتفاع بمستواهم اللغوى، والأدبى والثقافى.
- ومنذ وقعت عينى على هذا الكتاب، وبدأت أقرأ فيه، وفيما جاء فيه من الأشعار المنتخبة من ديوان الشعر العربى فى كل العصور، وقعت فى أسره، وفى أسر ما به من الأشعار.
كانت هناك أشعار مختارة من شعر ابى العلاء المعرى، والمتنبى، وأبى تمام، والبحترى، وأبى نواس، والشريف الرضى. وغيرهم.
وكانت هناك أشعار جميلة لشعراء آخرين، أقل شهرة من هؤلاء المشاهير، ولكنها كانت أشعاراً فاتنة جميلة.
وحتى الآن مازلت أذكر قصيدة منها، تعتبر جوهرة من جواهر الشعر العربى، بل والعالمى، قصيدة فاتنة غريبة فى نوعها، لشاعر من شعراء صدر الإسلام هو مالك بن الريب التميمى، قالها وهو مشرف على الموت بسبب إصابته البالغة من عضة أفعى، خلال مشاركته فى إحدى الغزوات، التى شنها الجيش الإسلامى فى بلاد فارس، وهى قصيدة شجية فى رثاء النفس، مازلت أحفظ الكثير من أبياتها.
يقول مالك:

ألا  ليـت  شعــري  هـل  ابيتنّ  ليلـــهً
بوادي الغضا أُزجي القِلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع  الركبُ عرضَـه
وليت  الغضا  ماضى  الرّكاب  لياليـا
لقد كانَ في ارض الغضا لودنا الغضا
مـــزارٌ   و لكنّ  الغضــا   ليس  دانيا
....

ويقول:

أُقلبُ  طرفى فوق رَحلى  فـلا  أرى
بها  من  عيون  المؤنسات   المُراعيا
وبالرّمل   منا  نســوةًّ   لو   شهدنني
بكين    وفدّيــن   الطبيب    المداويــا
فمنهن  أُمـى،   وابنتاهـا،  وخالتـــى
وباكيةُ     أخـرى   تهيـج    البواكيـــا
.....

ويقول:

تذكرت  من  يبكي  عليَّ   فلم  أجد
سوى  السيف والرمح  الرُديني  باكيا
وأحمـــر  قنذيــذ   يجُــر  عنـانـــه
الى  الماء   لم  يترك  له  الدهر ساقيا

- كما أذكر قصيدة أخرى لشاعر من شعراء ما قبل الإسلام، اسمه المثقب العبدى، يقول فيها:

أفاطــــمُ    قبـــلَ    بينـكِ   متعينــى
وحقِـك   مـا  سألتُــكِ   أنْ   تبينــــى
فـــلا  تَعـِـدى    مَواعـِـدَ    كاذِبــاتٍ
تمـرُ   بها   رياحُ   الصيفِ   دونـى
فإنــى   لـــوْ   تُخالفنـى     شِمالــى
خلافكِ   ما   وصلتُ   بها   يمينــى
إذن   لقطعتُهـــا،   ولقُلــتُ   بينــى
كـذلك    أجتـــوى    منْ   يجتوينــى
.....

- ثم يقول:

لِمَن  ظُعُـنٌ  تَطَالَّـــعَ   مِن   بعيـــد
فَمـا   طلعتْ  مِنَ  الوادي   لِحيـــــنِ
أُمِرَّ  على  شِـراف  فـذات   رَحْــلٍ
ونكبــن    الذرائـــع    باليميـــــــــن
وهـن  على   الركـــاب   منكبــات
طويـلاتُ    الذُّوائبِ    والقــــــرونِ
.....
ثم ينتهى إلى غرضه الرئيسى، وهو مدح ممدوحه "عرابة" بمديح يبدأه بداية رائعة بقوله:

إذا  مــا  رايــةُ   رُفعـت   لمجـــــدٍ
تلقـاهـــــا     عَـرابـــةُ      باليمـــين
             
كنت أقرأ هذا الشعر باعجاب وانبهار بقوته وجماله، وبتلقائيتة وبكارته، وأشعر أن هذه الصفات تنصب فى مشاعرى ووجدانى انصباباً، وتترك فىّ أثراً لا يُمحى.
كما كنت أقرأ فى المنتخب، شعراً جميلاً آخر، للشعراء المعروفين فى مختلف عصور الشعر العربى، الشعراء الجاهليين وأصحاب المعلقات، وشعراء صدر الاسلام، والدولة الأموية، والدولة العباسية الأولى، والعباسية الثانية، والدولة الفاطمية، وشعراء الأندلس، .. إلخ.. إلخ، بمن فيهم من أعلام الشعر فى تلك العصور، كأبى العلاء المعرى، والمتنبى، وابى تمام، وابن الرومى، والبحترى، والشريف الرضى، وأبى نواس، وابن زيدون، وغيرهم، وغيرهم.
وكنت انهمك فى كل تلك القراءات، وأنبهر بها، وأشعر بعد كل قراءة، أننى أزداد حباً للشعر وفهماً له، وقدرة عليه.
والثالث: هو دواوين الشعر الكثيرة التى كانت تقع فى يدى، والتى كنت أتلهف على قراءتها، ومنها دواوين أعلام الشعر فى عصوره المختلفة السابقة.
ودواوين لشعراء معاصرين، ابتداء من البارودى، وشوقى وحافظ، والعقاد ومطران وعلى محمود طه، ومحمود حسن اسماعيل، وأبى القاسم الشابى، وشعراء المهجر، وغيرهم.
- كانت قراءة الشعر هى أعظم متعة لى فى الحياة، وفى كل مرة كنت أقرأ فيها شعراً، أشعر بأن شيئاً جديداً قد أضيف الى عقلى وفكرى، وإلى روحى ووجدانى، ومن ثم إلى قدراتى كشاعر.
- على أننى لم أحاول ولم يخطر فى بالى أن أقلد أحداً من الشعراء الآخرين، ولم أحاول أن اعارض أحدا ً أو أنسج على منواله، وكل استفادة من جانبى من هذا الشعر، انما كانت بطريق تلقائى، وغير متعمد، كما يترسب الماء أو الغذاء، فى جسد الجائع أو الظمأن.
- وهكذا يمكننى أن أقول، إن الشعر هو الذى علّمنى الشعر، وجعلنى شاعراً، وذلك إضافة إلى الملَكة والموهبة التى حبانى بها الله تعالى، واغدقها على من فيض علمه اللدنى، كما من أفضال الوراثة التى فطر الله الخلق عليها.
- وساعد على تغذية ملكه الشعر عندى، أننى كنت أعيش فى بيئة عامرة بعشاق الشعر، وبالشعراء الناشئين، وخاصة فى مدرسة حلوان الثانوية، وفى القسم الداخلى، حيث كانت فرصة اللقاء والمشاركة وتبادل الأفكار أكبر وأيسر.
- كان معى من مصر صديقى الشاعر كمال عبد الحليم، ومن السودان كل من الشاعرين عمر محمد الطاهر، وصادق عبد الله عبد الماجد، ومن اليمن إسكندر ثابت العدنى، ومن لبنان كمال يقظان، ومن السعودية عدنان أسعد. وكان كل هؤلاء شعراء، وكانت الفرصة متاحة بينى وبينهم لتبادل الآراء حول الشعر، ولتبادل سماع أشعارنا الناشئة.
- وقد أوردت فيما يلى من هذا الكتاب الكثير من أشعار كمال بعد أن نضجت شاعريته، ولكن شاعريته ونحن فى حلوان لم تكن قد نضجت كل هذا النضوج، ولكنه كان قد بدأ يقرض الشعر، ويلقيه على مسامعنا.
- وكان عمر محمد الطاهر الذى أصبح فيما بعد قاضياً كبيراً، وشاعراً معروفاً فى السودان، يلقى علينا أشعاره الجميلة، التى كانت منها قصيدة مازلت أحفظ بعض أبياتها - تقول:

إن  وادى  النيـل، والنيـلَ  السعيــــدْ
لم   يَطـب  إن  ينتهل  منه  العبيــــد
كـل  كــرمٍ  فيـه أو  عقدٍ   نضيــــــد
ودّ هـذا الـرِىِّ  من  جُـرح  الشهيـــد
يـا  شبــاب  النيـل  رُفــاعِ   الجبـــاه
مجــدُ  وادى النيـل لـم  يبلغ مـــــداه
بالعنـا   والضيـم   نيطــتْ   قدمــــاه
كـل   فــــردٍ   فيـه  عبــدٌ   لســــواه
فانتبــه   يـا   نيــل   إن    الأممـــــا
للعُــلا   والمجـد   ســارت   قـدمـــا
نحّ   عنـك   القيـد،   هــات   العَلمــا
وليكـن   يـا   نيــل   مجـراه   دمـــا

وكنا نتراسل فى أيام العطلات الصيفية، حيث كان كل منا يذهب ليعيش فى بلاده، وكان صادق عبد الله عبد الماجد يراسلنى فى بلدتى زاوية المصلوب، وأراسله على بلدته أم درمان.
- كتب إلىَّ صادق، وأرفق بخطابه قصيدة يقول فيها:

أفى مصرَ يبكى الشوق  ولهان  باكيا
ويترك  فى  السودان من بات شاكيــا
ويتـرك  فى  السـودان  إلفـاً  مُبّرحــاً
تعـاوده   الذكـرى   فيــرثى   لحاليـــا

وقد رددت عليه بقصيدة قلت فيها:

أصادق  قد  شطـت  بنا غُربة  النـوى
ومن  لى بمن يهوى النوى يا صحابيا
ظمئتُ إلى  الأحبـاب لا كنت  شاكيــاً
ولا  كنـت  ولهانــا،  ولا كنـت  باكيـا
ولا كنت تشكو ما بى اليوم من  جوى
وأنت  الذى  تــدرى  وترثى  لحاليـــا
إذا لاح  نجــمُ فى  دُجـى الليـل  خلتـه
عــلاك  فـلــم  أحـفـل  بهــمٍ  بـداِليّـــاَ

- وكان اسكندر ثابت العدنى الذى أصبح بعد ذلك شاعراً وكاتباً وموسيقياً شهيراً فى عدن، يكتب الشعر، ويغنيه ويلقيه علينا فى المناسبات وحفلات السمر.
وكنا "نقرمز" بالشعر فى أمور حياتنا العادية، ونتبادل هذه الأشعار ونتفكّهُ بها.
- وكان كل ذلك بمثابة تمرين لنا على قول الشعر، وتدريب لنا على تجربة أوزانه وقوافيه، مما ساعد على تقدمنا كشعراء ناشئين، أو "تحت التمرين".
- وكل هذه العوامل، قد ساهمت فى تكوينى كشاعر، وأضافت إلى موهبتى الموروثه، قدرات مكتسبة على فهم الشعر، والإحساس به، ثم على إبداعه وإنشائه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق